Author

"زواج فرند"

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> مازلت أتذكر العقاب القاسي الذي تلقيته من مربينا الفاضل، حين لم يتقبل مني نطق كلمة "التلفزيون" دون تعريب. وتعريب التلفزيون للذين لم يتلقوا العقاب مثلي من قبل هو "الرائي" كما أن الناسوخ هو الاسم المعرب للفاكس، والمسافنة أطلقت مجازا على الموانئ (المناطق) الحرة، وغير ذلك من الأسماء الأخرى. يقول علماء النفس، إن المواقف المؤلمة التي تحدث في سن الطفولة تبقى في المنطقة المعتمة من الدماغ، تتوارى ولا تفقد أبدا، تنتظر محفزات الأحداث كي تظهر من جديد، وهذا ما حدث لي بعد أن قرأت الفتوى الصادرة من المجلس الفقهي، التابع للمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي المتعلقة بـعقود النكاح المستحدثة، وما تبعه من توضيح لمعنى الأنكحة المستحدثة" التي حددها الشيخ عثمان المرشد، عضو المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، على أنها "زواج المسيار وزواج فرند". لم أدقق كثيرا، بداية الأمر، في الفتوى ذاتها بقدر ما كان تركيزي منصبا على اللفظ الذي أطلقه بعض رجال العلم على عقد من عقود النكاح الشرعية مكتملة الأركان. فالمصطلح المستحدث كان على ارتباط وثيق بما يعرف في الغرب بجيرل فرند Girl frindوهي علاقة محرمة شرعا، ما جعلني أقارن بين خطئي الطفولي الذي ألحق بي العقاب، وبين استخدام بعض العلماء، دون تحفظ، لهذا المصطلح الغريب في معناه قبل لفظه. ما الذي قاد بعض العلماء إلى استخدام هذا المصطلح؟، هل هو تنازل عن المسلمات والثوابت؟ أم ترى أنها محاولة لمحاكاة الغرب في ثقافاتهم من خلال تمييع المصطلحات الفقهية، وتفريغ القضايا الشرعية من معانيها الإنسانية؟ أعتقد أن الشيخ عبد المجيد الزنداني كان أول من أطلق هذا اللفظ على عقد النكاح (المستحدث) وأول من أصدر فتوى بجواز هذا العقد، حيث أستند في فتواه إلى صحة العقد من الجانب الشرعي إضافة إلى حاجة الجالية الإسلامية في الغرب إلى مثل هذا النوع من عقود الأنكحة لحماية أبنائهم وبناتهم من مشاكل الاختلاط، وتأثير الثقافة الغربية على أخلاقهم. إذا اعتمد الشيخ الزنداني في فتواه على الوضع الخاص الذي تواجهه الجاليات الإسلامية في الغرب، حيث كان أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يجيز هذا العقد المستحدث، وإما أن يواجه أبناء الجيل الجديد فتن الحياة والاتصال المحرم، فآثر الأول على الآخر، وكأنما أراد أن يختار أخف الضررين. وهنا نتساءل إن كانت هذه الفتوى خاصة، أم عامة لجميع المجتمعات الإسلامية؟ ربما كان من المفترض أن تكون الفتوى خاصة لأصحاب الرخص، إلا إنها أصبحت عامة بعد أن وثقت من المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي. لا خلاف على أن عقود النكاح الشرعية لا يمكن تجزئتها أو تصنيفها، فهي عقود ثابتة تشترط توافر الأركان والشروط الأساسية ومنها: صيغة العقد الشرعية، الولي، الشاهدان، رضا الزوجين، والمهر، ومتى استوفى العقد لتلك الشروط والأركان يصبح العقد نافذا ومحللا لدخول الرجل على زوجته. قد تكون هناك شروط أخرى تضاف على العقد باتفاق الزوجين، وهي شروط مقبولة طالما أنها لا تحرم حلالا، ولا تحل حراما، إلا أنها تبقى ضمن عقد النكاح الأساسي ولا تخرجه من معناه الفقهي. ومع ذلك أصبحنا نسمع عن زواج المسيار، زواج الصيف، وآخرها زواج فرند، ولا نعلم إن كنا سنشهد مستقبلا، تصنيفات أخرى لعقود الزواج المقدسة. من المؤسف حقا أن نركز دائما على العقود وأركانها، ونتناسى الحكمة الربانية الكامنة خلف هذه العقود. فالعقود هي وسيلة لحفظ الحقوق وإثبات الحالة شرعا، تنقضها النية واللفظ، أما الغاية فهي أساس التشريع والتي على ضوئها سنت العقود الشرعية، وغاية الزواج هي ما انطوت عليه النية تحقيقا للحكمة الربانية في خلق الخلق والتكاثر. ويمكن أن نستشف الحكمة الربانية من الآيات القرآنية الكثيرة ومنها قول الله جل وعلا: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" وقوله تعالى "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ"، وقوله تعالى "أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى" وقوله تعالى "وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا" وقوله تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا". بين الله سبحانه وتعالى في آياته الكريمة أهداف الزواج الحقيقية ومبادئ التعايش بين الزوجين والحضانة والرضاعة والسكنى، وغيرها من الأمور النبيلة التي قد تختفي فيما يعرف باسم "زواج فرند"، فيخرج الزواج من غاياته الحقيقية، وإن كان زواجا شرعيا يقوم على عقد مستوفي الشروط والأركان، وأخشى أن يكون هذا الزواج باب شر تلج من خلاله الفتن المقبلة، فتعم الفوضى مجتمعاتنا الإسلامية ويتحول عقد النكاح المقدس إلى عقود صورية تستغل من أجل الاستمتاع الوقتي فتضيع حقوق المرأة وحقوق الأبناء، وتشيع بين الناس عقود الزواج بنية الطلاق وهو الأقرب لزواج المتعة، وتزوج المرأة نفسها دون ولي، وتتحول المرأة إلى سلعة تباع وتشترى باسم الدين والدين من ذلك براء. لقد كرم الله سبحانه وتعالى المرأة، وقدس الحياة الزوجية السوية، وعدد الحقوق والواجبات، وفندها بنص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وجعل الرخص الخاصة للاضطرار، كما هي موجودة في العبادات أيضا، ومن غير المقنع أن تعتمد الفتوى على الرخص كأساس وتتجاهل الأركان التي يفترض أن تبنى عليها الحياة الزوجية. ختاما، أجزم بأن "زواج فرند" لا يمكن له أن يحقق أهداف ومقاصد الزواج الشرعية، أو أن يسهم في ترسيخ المعاني السامية للحياة الزوجية، أو أن يكون أداة فاعلة في حفظ المجتمع والنأي به بعيدا عن منزلقات الشر والدمار وهو ما يجعله، بحسب ظني، من العقود الشرعية البغيضة. جَبُن الرجال، وحاربت النساء سنة التعدد، وطغت على مجتمعاتنا ثقافات الغرب، فاستورثت المجتمعات الإسلامية ويلات الدمار. والله المستعان.
إنشرها