قرارات الملك ... قرار (فعل) وليس (ردة فعل)
<a href="mailto:[email protected]">abdullahbinmahfouz@gmail.com</a>
لم يكن الأسبوع الماضي ومطلع الأسبوع الحالي, أسبوعين عاديين في السعودية، حيث وصفت أجهزة الإعلام الاقتصادية العربية مجازا فقالت: (السعودية ذات ثقل اقتصادي، ولو لحق بها زكام، أصيبت جميع الأسواق الأخرى بالتهاب رئوي). وأياً يكن التشبيه الإعلامي, فهو على العموم يؤكد بصدق مدى الثقل الاقتصادي الذي تتمتع به السعودية، وهو أمر يدركه الجميع من أعلى هرم في صُناع القرار إلى أصغر عضو فاعل في المجتمع. وهنا أعود إلى ما حدث مطلع الأسبوع الماضي، فقد كان الجميع على موعد مع إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, بموافقته على إنشاء مركز مالي في الرياض, خاطفاً بذلك الأنظار الدولية، ومؤكداً أن السعودية بلد، لم تكن في يوم من الأيام ببعيدة عن جو التنافس في جذب الرساميل والشركات متعددة الجنسيات. وهنا الإشارة المهمة إلى أن قرار خادم الحرمين الشريفين يمكن قراءته أيضاً من جانب مهم جداً, فالسعودية أصبحت دولة (ذات فعل)، وقراراتها الاقتصادية أصبحت لا تنتظر (ردة فعل)، أو بمعنى آخر، فإن قرار إنشاء مركز المال، ليس رداً على أسواق أخرى في المنطقة. ويمكن النظر إلى المركز المالي الجديد بأنه إعلان صريح من الرياض بأنها مقبلة على "عصر دولي" وانفتاح اقتصادي بوتيرة عالية يمكنها أن تكون عاصمة جديدة لـ "المال" في منطقة الخليج بعد عدة سنوات من سحب البساط من إمارة دبي ومن قبلها البحرين.
ولا أظن أن القارئ وهو يقرأ هذا التفاؤل من كاتب اقتصادي قد بدت عليه علامات التعجب وبدا يقطب حاجبيه، ويتساءل: ألست مفرطاً في قولك إلى حد كبير، خصوصاً وأنت تتحدث عن مركز مالي في المنطقة، فرحلة دبي ومن قبلها البحرين، لم تكن سوى نتاج لمنظومة كاملة وإصلاحات اقتصادية تمت علي مراحل؟ وأتفق تماماً مع هذا الرأي, إذ قال لي أحد المختصين الماليين إن القرار يعتبر (تحدياً) كبيراً في مجال الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، فلكي تكون مركزاً مالياً إقليمياً في أي مجال، عليك أن تقدم خدمات على نطاقٍ أوسع، وفي (المركز المالي) تحديداً يعني أن سوقك المالية يجب أن تكون أكثر تحرراً وانفتاحاً، هذا عدا أنك يجب أن تكون مكاناً جذاباً للعيش فيه (تعايش اجتماعي جديد)، لتلبية طبيعة تعدد اللغات للقوى المالية العاملة. ويستدل ذلك الاختصاصي على تجربة البحرين، التي سجلت المسار الأكثر طولاً كمركز إقليمي للأعمال المصرفية الإسلامية, كما كانت بعد دبي في التطور الأخير مع بنوكٍ استثمارية عالمية تشمل مورغان ستانلي وغولدمان ساش.
ولنعترف أننا أمام تحديات, وأمامنا طريق طويل، لكننا في الوقت نفسه يجب أن نتأكد أننا خطونا في الاتجاه الصحيح، وأن قرار الملك عبد الله في إطار المراجعة الواعية التي انتهجتها حكومته في تنفيذ البرنامج الإصلاحي الطموح، ومعالجة كل شكل من أشكال الضعف والاختــلال، أو تعدد وتضارب وتنافر الصلاحيات. وكما قال خادم الحرمين الشريفين ـ يحفظه الله - تأتي هذا القرارات في إطار العمل المتواصل لاستمرار البناء والهيكلة لاقتصادنا، وتطويره المؤسساتي والإداري وتعزيز شفافية العمل وتحسين بيئة الاستثمار، واتباع سياسات مالية ونقدية داعمة للنمو، مع المحافظة على استقرار الأسعار وتطوير السوق المالية.
أما القرار الآخر وهو فعل وليس رد فعل لما حدث في سوق الأسهم السعودية, فكان تعيين الدكتور عبد الرحمن التويجري في (الكرسي الذهبي) متوقعاً بين لحظة وأخرى, خاصة بعد المقابلة الإعلاميـة مع معالي الاستاذ جماز السحيمي في القناة الأولى, فقد أثر إعلاميا على السوق أكثر منه عمليا في إدارته هيئة سوق المال, لذلك فإن المنصب كان بحاجة إلى "سوبر ستار" في هذه المرحلة المهمة وكذلك إلى رجل يجيد التعامل مع الإعلام, خاصة في مجتمع واع ومدرك, في حالة شبهها المراقبون الاقتصادية بحال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق غرينسبان الذي كان ينتظره الشارع الاقتصادي العالمي في أي ظهور, فأي حرف يخرج منه من الممكن أن يرفع الدولار أو يخسف به، وأي تصريح قد يخرج من السحيمي من الممكن أن يغني سعوديا ويفقر آخر (والأمر كله أولا وأخيرا لله الواحد).
حيث لاحظنا أنه لم تمض دقائق على صدور الأمر الملكي الكريم القاضي بإقصاء السحيمي وتكليف التويجري حتى ظهر على شاشة أكثر الفضائيات متحدثاً عن أول الخطوط العريضة، حيث كان مؤمناً أن الإعلام قائد لأي توجه اجتماعي أو اقتصادي. فطبيعة كرسي رئيس هيئة سوق المال زادت أهميتها بتعلق السعوديين وحتى الأجانب في الفترة الأخيرة بمؤشر السوق المرتبط بجيوبهم، ما جعل من يجلس عليه، من الذين يصنفون بأن "العين عليهم"، فمع أول دقائق إعلان التويجري رئيساً جديداً للهيئة حتى تبادل المهتمون بحركة السوق سيرته الذاتية عبر رسائلSMS ، ومنتديات الإنترنت.
ومن الاستثمار الضخم في سوق المال في الشرق فقد أنتقل إلى غرب السعودية بصورة متوازية فقد تسلل خبر استثمار شركة إعمار الشرق الأوسط، باستثمارها أكثر من 40 مليار ريال في مشروع (تلال جدة)، وهو ـ في اعتقادي ـ مشروع يزيل مساحة كثيرة من الأحزان في جدة الحبيبة، بعد أن طغت عناوين حمى الضنك ومطاردة بعوضته شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، على أي خبر في عروس البحر.
(تلال جدة)، كما بدا, مشروع طموح، سيدعم موقف عروس البحر، التي أصبحت (مخنوقة) من الغرب والجنوب والشمال، وهو في الوقت نفسه سيضع جميع شركات التطوير العقاري في قمة المنافسة، فها هي شركة باستثمار سعودي ـ إماراتي، تأتي إلى عقر دارهم، معلنة التحدي في مشروع ضخم من حيث قيمته الاستثمارية، كما أنه مشروع يملك رؤية ضمن سمة اتسمت بها مشاريع الشريك الإماراتي خصوصاً، والمتمثلة في إنشاء تجمعات سكانية في منطقة ما، يخلقون في المستقبل تجمعات ومجتمعات أخرى.
إن المرحلة الجديدة ستحمل بلا شك سمات وبصمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, ولا سيما على المستوى الاقتصادي، وذلك من خلال خطة الإصلاح الشاملة والطموحة التي حمل لواءها منذ أن كان ولياً للعهد، والتي سيتابعها من خلال مسيرة كملك.
إن السعودية، وبفضل رؤية الملك عبد الله, تدرك بصورة خاصة مدى الحاجة إلى إدخال إصلاحات اقتصادية بهدف تخفيف الاعتماد على النفط وتنويع مصادر الدخل، وإشراك القطاع الخاص في عملية التنمية، ومواكبة التطورات الحاصلة بما يمكن الاقتصاد السعودي من الاندماج في الاقتصاد العالمي.
ختـاما, مما لا شك فيه أن السعودية بلد يتمتع حالياً بالفوائض المالية نتيجة ارتفاع أسعار النفط, وسـوف تكون هذه الطفرة بالنسـبة للملك عبد الله عامـلاً محفزاً لعملية الإصلاح، وإتمامها بظروف أسهل وأسرع, الأمر الذي يضع الحكومة أمام تحديات سرعة التنفيذ للمضي قدماً في عملية التطوير والسعي إلى اعتماد الاستخدام الأمثل للموارد المالية المتوافرة.