Author

دور الكتابة في تطور الحضارة الإنسانية

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> اللغة والكتابة كلتاهما خاصيتان إنسانيتان، لكن اللغة خاصية بيولوجية وجدت منذ وجد الإنسان بينما الكتابة خاصية ثقافية اكتسبها الإنسان في وقت متأخر من تاريخ وجوده على الأرض، ولا تزال بعض الجماعات تفتقر إلى الكتابة. لم يخترع الإنسان الكتابة إلا في فترة متأخرة جداً من هذا التاريخ الطويل ومنذ مدة وجيزة لا تزيد على أربعة آلاف سنة على يد السومريين. تكلم الجنس البشري خلال تاريخه الطويل على هذه الأرض عشرات الآلاف من اللغات التي اندثر معظمها دون أن تترك أثرا لأنها لم تعرف الكتابة. واللغات المعروفة والموثقة لا يتعدى عددها ثلاثة آلاف لغة لكن ما كُتب منها كتابة أبجدية وأنتج أدبا مكتوبا لا يتعدى المائة. ولكي ندرك التغيرات الجذرية التي أحدثتها الكتابة على المجتمع الإنساني علينا أن نتذكر أنه لولا الكتابة لاستحال قيام الدولة العصرية بمساحتها الجغرافية الشاسعة وعدد سكانها الكبير وتنظيماتها المعقدة وأجهزتها البيروقراطية الضخمة وقنوات اتصالاتها المكثفة وسجلاتها المدنية وأرشيفاتها وتعاملاتها الاقتصادية. كانت القبيلة أو دولة المدينة التي تغطي رقعة جغرافية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف هي أكبر كيان سياسي ممكن التحقيق في مراحل ما قبل الكتابة. الكتابة مهدت الطريق لظهور العلوم العصرية والتكنولوجيا والصناعات ومختلف الإنجازات الحضارية التي يتوقف عليها تطور الجنس البشري. علوم الفلك والرياضيات والمنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية إجمالا لم يكن من الممكن لها أن تتحقق وتنمو وتتطور من دون الكتابة. هناك عمليات رياضية أبسطها القسمة والضرب وعمليات منطقية مثل القياس والاستدلال وعمليات ذهنية مثل الاستنباط والاستقراء يستحيل أصلا إجراؤها من دون الاستعانة بالكتابة. كما أن الملاحظة والرصد والمسح والتوثيق وعمليات الإحصاء وجمع المعلومات، التي هي أهم أدوات البحث العلمي، لا يمكن تحقيقها من دون الكتابة. فالبابليون مثلا تمكنوا بفضل ملاحظتهم وتسجيلهم حركات الأجرام السماوية لمئات السنين والمقارنة فيما بينها أن يكتشفوا عبر الأجيال ما تنطوي عليه من نظام مما مكنهم من التنبؤ بالكسوف. هذا عدا إمكانيات عرض المعلومات التي تتيحها الكتابة على شكل قوائم أو جداول ثنائية الأبعاد أو بشكل هرمي، إضافة إلى الأشكال والخرائط ومختلف وسائل التوضيح. تسطير الكلام على الورق يوحي بقدر من الترتيب والتنظيم والتحكم وغيرها من مفاهيم الضبط والربط التي تتعلق بتجاربنا الحسية المرتبطة بالحيز المكاني كالإبصار والحركة. ترتيب الكلمات على الورق وصفّها في سطور منضدة لا بد أن تكون له انعكاسات على تنظيم الأفكار التي تعبر عنها الكلمات، كما أنه لا بد أن يترك آثاراً هائلة على ملكات الإنسان الإدراكية والوجدانية وعلى وسائله في تخزين وتنظيم واسترجاع مستودعاته الذهنية والنفسية. نمو المعارف الإنسانية لا يتوقف على المضامين بل يفترض أيضا عمليات محددة تتعلق بآليات الاتصال بين الأفراد ووسائل توريث المعرفة من جيل إلى جيل. الثقافة في نهاية المطاف هي مجموعة العمليات التواصلية، لذا فإن الاختلاف في وسائل الاتصال المعلوماتي غالبا له الأهمية نفسها التي لأساليب الإنتاج المعلوماتي، لأنها تشمل تطوير أوعية التخزين ووسائل التحليل والتوليد للمعرفة الإنسانية، إضافة إلى تحوير العلاقات بين الأفراد المعنيين. التدوين، خصوصا الكتابة الأبجدية، أفسح المجال لإمكانية تفحص الكلام بشكل مغاير وذلك بإعطاء اللفظ المنطوق شكلا ثابتا. هذا التفحص سمح بتوسيع آفاق الممارسات النقدية، ومن ثم نمو العقلانية والتساؤل والمنطق. وهذا مما أدى إلى دفع عجلة النقد، لأن الكتابة وضعت الكلام أمام نظر الإنسان بطريقة مختلفة، كما أنها وسعت في الوقت نفسه من إمكانية التراكم المعرفي، خصوصا المعرفة ذات الطابع المجرد، ذلك لأنها غيرت طبيعة الاتصال لتتخطى العلاقة الشخصية المباشرة وجها لوجه، مثلما غيرت نظم تخزين المعلومات. بهذه الطريقة أصبح هناك مجال أرحب من "الأفكار" متاح لجمهور القراء. وهكذا لم تعد مشكلة التخزين في الذاكرة هي المسيطرة على العمليات الذهنية عند الإنسان. تحرر العقل الإنساني من هذا العبء ليتفرغ لتحليل "النص" المقيّد. وهذه عملية مكنت الفرد من أن يفصل بين شخصه وإبداعه ليتفحصه بشكل موضوعي مجرد وعقلاني. الكتابة أتاحت إمكانية مراجعة المعلومات التي أنتجها البشر خلال فترة ممتدة من الزمن، كما أنها شجعت كذلك النقد والتفسير من ناحية وأكدت سلطة الكتاب من ناحية أخرى. تعلُّم الكتابة له تأثير ملحوظ في الأنساق المسؤولة عن تنظيم العمليات الذهنية، حيث إن الكتابة نظام رمزي خارجي يتدخل في تنظيم المعالجات الفكرية ويؤثر في بنية الذاكرة وطرق التصنيف وحل المسائل والمعضلات. الكتابة ليست مجرد وسيلة عالية الكفاءة لتسجيل المعلومات وحفظها وتذكرها، بل هي أيضا وسيلة ناجعة لتنظيم المعرفة وترتيبها وتصنيفها والتعامل معها بطريقة تساعد على تحليلها ومعالجتها وإخضاعها لمختلف العمليات المنطقية والنقدية. تدوين النصوص وتثبيتها بواسطة الكتابة ثم وضعها جنبا إلى جنب والنظر إليها بالتزامن، بدلا من سماعها بالتتالي، والمقارنة فيما بينها يساعد على اكتشاف ما فيها من غموض وتناقضات وأخطاء وتضارب وكذلك ما فيها من انتظام واطراد واتساق مما يمكن صياغته على شكل قواعد أو قوانين علمية. اكتشاف قواعد اللغة من نحو وصرف غير ممكنة دون تقييد الألفاظ والعبارات وتثبيتها كتابيا بحيث يمكن المقارنة فيما بينها والنظر إليها بالتزامن، بدلا من سماعها بالتتالي الذي هو سمة الكلام الشفاهي. كما أن تثبيت الكتابة للروايات المتعددة للقصيدة الواحدة أو الحادثة التاريخية هو الذي يسهل علينا اكتشاف ما بين هذه الروايات المختلفة من تضارب وتباين واختلافات تصعب ملاحظتها في ظل الرواية الشفاهية الشاردة. ومن هنا نجد أن اكتشاف قواعد اللغة العربية وأوزان الشعر العربي، وغير ذلك من الإنجازات العلمية في مجالات اللغة والأدب لم يأت إلا بعد تفشي الكتابة في القرن الثاني الهجري، وفي هذه الفترة ذاتها أيضا بدأت الاختلافات في رواية القصائد الجاهلية تشكل معضلة تسترعي الانتباه وتثير التساؤلات والشكوك. وقبل ذلك عند الإغريق نجد أن ظهور الكتابة ارتبط بظهور علم التاريخ على يد هيرودوتس وعلم القياس المنطقي على يد أرسطو. غياب الكتابة غيّب الحس التاريخي عند الرجل الأمي وجعله يعيش دائما في الحاضر. أحداث الماضي البعيد التي لم تعد ذات صلة بالحاضر تنتفي الحاجة إلى إعادة الحديث عنها وتكرارها فتتبخر من الذاكرة أو تُحوّر وتحدّث بشكل تلقائي وعفوي وتدريجي غير محسوس، وربما غير مقصود، في انتقالها شفاهيا من راو إلى آخر ومن جيل إلى جيل مما يفقدها هويتها الأولى لتصبح متوافقة مع متطلبات كل عصر. فالمفردات التي فقدت دلالاتها تندثر في حال التوقف عن استخدامها أو تستبدل بها غيرها أو يتغير نطقها أو دلالاتها لأنها لم تقيد في قواميس ومعاجم تحفظها من الضياع وتسجل تاريخها الدلالي وتستعرض المعاني المختلفة التي مرت بها في استخداماتها عبر العصور. فالكتابة مثلا سجلت لنا مفردات العصر الجاهلي التي يمكننا الرجوع إليها والتحقق منها بصرف النظر ما إذا كنا نستخدمها الآن أم لا، لكننا لا نملك أي معلومات ذات بال عن اللغة العربية في العصور التي سبقت العصر الجاهلي لأنها لم تصلنا عن طريق التقييد الكتابي. الرجل المتعلم يعرف الكثير من خلال قراءاته واطلاعه على المصادر المكتوبة عن التاريخ العربي منذ عصور ما قبل الإسلام حتى الوقت الحاضر، على خلاف الرجل الأمي أو البدوي في الصحراء الذي لا يعرف من التاريخ إلا نتفا من الروايات الشفاهية المشوشة التي لا يتعدى عمقها الزمني مائتي سنة. غمر الماضي بمقتضيات الحاضر ومتطلباته يجعل الإنسان الأمي ينظر إلى الأمس دائما بعيون اليوم دون أن يدرك حقيقة التغير والتطور أو يعي مسيرة الزمن وعمق التاريخ فيركن إلى الاعتقاد بأن العالم كان وما زال وسيظل كما هو. فالأنساب والأصول والتشكيلات القبلية القديمة تُنسى ويتصرف أبناء القبيلة كما لو كان التكوين القبلي الحاضر أزليا منذ بداية الخليقة. خذ مثلا الأسطورة التي تتحدث عن نشأة ولاية الغونجا في شمال غانا الإفريقية. تقول الوثائق التي سجلها الإنجليز في بداية دخولهم المنطقة مع بداية القرن العشرين, إن مؤسس الولاية كان له سبعة أبناء كل منهم يحكم مقاطعة من مقاطعات الولايات السبع, ومع مرور الوقت اندمجت إحدى المقاطعات بجارتها بينما اختفت أخرى بسبب تعديل الحدود. وهكذا تقلصت مقاطعات الولاية من سبع إلى خمس. وحينما أعيد تسجيل تاريخ الولاية مرة أخرى بعد 60 سنة من المرة الأولى تبين أن الأسطورة عُدّلت وحُدّثت تلقائيا بحيث أصبح أولاد المؤسس خمسة فقط بعدد المقاطعات المتبقية من الولاية. وإذا ما تدبرنا مثل هذه الحقائق ووضعناها نصب أعيننا أدركنا أن الكثير من التغيرات التي طرأت على نصوص الأدب الجاهلي بعد ظهور الإسلام قد يكون مرد معظمها في المقام الأول إلى مثل هذه الآليات، التي هي من خصائص وطبيعة الآداب الشفاهية والثقافات الأمية، وليست دائما وبالضرورة، كما يزعم أصحاب نظرية الانتحال، تزييفا مقصودا أو تدليسا متعمدا تحدوه الدوافع السياسية والاعتبارات الدينية، وإن كنا لا ننفي هذه الاعتبارات على وجه الإطلاق.
إنشرها