Author

بالأرض مريّه وبالسما برقيه

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> منذ بضعة أيام بعث لي صديقي بيتر هاريغان Peter Harrigan نسخة من مقالة له نشرها في مجلة "عالم أرامكو السعودية" Saudi Aramco World عن مهارة قص الأثر عند قبائل المرة· تتحدث المقالة عن فوائد هذه المهارة بالنسبة إلى البدو كضرورة من ضرورات البقاء والعيش في الصحراء، ثم كيف تم توظيفها في العصر الحديث من قبل بعض المؤسسات الرسمية في مكافحة الجريمة والإرهاب، وحتى في المحافظة على الحياة الفطرية وملاحقة من يتسللون إلى المحميات لممارسة الصيد غير المشروع. ومن القصص الطريفة التي يوردها هاريجان في مقالته أن لصا أراد أن يحتال على قصاص الأثر ويوهمه فانتعل حذاء غير حذائه أثناء ارتكاب الجريمة لكن الحيلة لم تنطل على القصاص الذي كان اسمه مطلق غايب المقاطي· وفي حادثة أخرى استطاع مطلق حينما دخل المسجد للصلاة أن يكتشف شخصا متهما بالسرقة بمجرد النظر إلى حذائه من بين الأحذية المخلوعة عند باب المسجد· وفي 1980 عاش المصور وين إيستاب Wayne Eastep مع المرة والتقط لهم صورا منها أثر قدم أحد أفراد القبيلة· ويقول إيستاب إنه بعد عدة سنين أطلع بعض أصدقائه من القبيلة على صورة الأثر فتعرفوا عليها حالا وعرفوا لمن هي· وفي كتابه Arab Falconry: History of a Way of Life لا يخفي روجر ابتون Roger Upton دهشته من مهارة البدو وقوة ملاحظتهم في قص أثر طائر الحباري، فهم يعرفون مثلا أن الآثار القريبة من بعضها تعني أن الطائر يرعى في الصباح وإذا تباعدت خطاه وسار في خط مستقيم فهو قد رأى ما يريبه ولاذ بالفرار، وهم يعرفون آثار الطائر الذي على وشك أن ينهض ليطير وفي أي اتجاه سوف يطير وأين سيحط، لأنه يطير عكس الريح. ومهارة قص الأثر ليست مقصورة على المرة، فكل البدو الذين يقطنون في المناطق الرملية ماهرون في قص الأثر، ولكن لمهارة أفراد قبيلة المرة في هذا الشأن استأثروا بالتسمية· بل إن هذه المهارة ليست مقصورة على القبائل البدوية عندنا، فقبائل الهنود الحمر في أمريكا معروف عنهم أنهم بارعون في قص الأثر· ويتعجب هاريغان في مقالته كيف نهمل نحن هذه المهارة الآخذة في الانقراض على الرغم من فوائدها الواضحة للعيان، هذا بينما تحولت في العالم الغربي إلى علم وموضوع يحظى بالاهتمام· فقد استفاد الرجل الأبيض من مهارة الهنود الحمر ودرسوها وحولوها إلى علم· وقد ظهر في أمريكا العديد من الكتب في هذا الموضوع الذي صار يدرس عندهم في معاهد البحث الجنائي ومدارس الجيش والشرطة ضمن ما يسمونه مهارات البقاء survival skills التي تدرّس عادة لطلاب الكشافة والجنود الذين يبعثون في مهام خاصة وخطرة ليستفيدوا من هذه المهارات حينما تتقطع بهم السبل في الأماكن النائية والمهجورة في أعماق أرض العدو خلف الصفوف الأمامية. وليس هاريغان هو الوحيد الذي لفت انتباهه براعة البدو في قص الأثر، فقد أثار هذا الموضوع اهتمام العديد من الرحالة الأجانب الذين رافقوا البدو وأدلوا بشهادات في هذا الشأن قد يصعب تصديقها أحيانا· كتب بيرترام توماس Bertram Thomas في كتابه Arabia Felix: "قال لي رجالي وهم يشيرون إلى آثار جرة بدت لي لا تختلف في شيء عن أي جرة أخرى: انظـر يا صاحب، هذا فلان، هذه ذلوله وهو يقودها، إنها لْقِحِة، ألا ترى عمق جرتها· لقد أدهشتني دقة رفاقي في وصف أولئك الذين كانوا قد مروا هنا من قبلنا والسهولة التي استخلصوا بها الدلائل من الآثار التي كنا نتتبعها· بالمقارنة بدت لي طريقة الاستشهاد بالبصمات المستخدمة في الغرب عملية بطيئة ومتعبة ومعقدة". ويقول ويلفريد ثيسيجر Wilfred Thesiger في كتابه Arabian Sands: "بعد عدة أيام رأينا جُرة أقدام· ولم أكن أنا متأكدا حتى ما إذا كانت آثار إبل لأنها كانت قد ذرتها الرياح· التفت سلطان إلى رجل وخط لحيته الشيب معروف بمهارته في قص الأثر وسأله لمن تلك الُجرة· انحرف الرجل عنا جانبا وتبع الجرة لمسافة قصيرة ثم نزل من على ذلوله وتفحص الآثار التي انطبعت في أثناء عبور الإبل على أرض صلبة وفتّت بين أصابعه شيئا من بعرها ثم عاد وانضم إلينا· سأله سلطان: من هم؟ فأجاب الرجل: عوامر، ستة، غزوا على الجنوبة في الساحل الجنوبي ونهبوا منهم ثلاثة أباعر وجاءوا من عند سحما ووردوا مغشن ومروا من هنا منذ عشرة أيام· قال هذا مع العلم أننا لم نصدف عربا منذ 17 يوما ولن نصدف أحدا قبل 27 يوما من يومنا هذا· وفي طريق عودتنا بعد ذلك بمدة قابلنا أشخاصا من بيت كثير بالقرب من جبل قرا ولما تبادلنا الأخبار معهم قالوا لنا إن ستة من العوامر غزوا على الجنوبة وقتلوا منهم ثلاثة رجال ونهبوا منهم ثلاثة أباعر· الشيء الوحيد الذي لم نكن نعرفه حينها هو أنهم قتلوا ثلاثة رجال · · · بمجرد تفحص آثار جرة لإبل غريبة يمكنهم معرفة المنطقة التي أتت منها· فالإبل التي تأتي من المناطق الرملية مثلا أخفافها رقيقة تتدلى منها شرائح من نتف الجلد المتمزق، بينما تلك التي تأتي من المناطق التي تغطيها الحصباء أخفافها ملساء· ويستطيع البدو من جرة البعير معرفة القبيلة التي هو لها لأن كل قبيلة تمتلك سلالة خاصة بها من الإبل يمكن معرفتها من جرتها· ويمكن من تفحص البعر تقدير المرعى الذي رعى منه البعير ومتى ورد الماء وأين." ولا عجب أن يبرع البدو في قص الأثر، فتلك مهارة يتعلمونها مثلما نتعلم نحن قراءة الخط المكتوب أو الأشكال الهندسية· ومثلما نتعجب نحن من قدرتهم على قص الأثر نظرا لجهلنا بهذا الأمر فهم كذلك يتعجبون من مقدرتنا على القراءة والكتابة نظرا لجهلهم بذلك· ومهارة قص الأثر ترتبط بمهارات أخرى يتميز بها البدو وتمليها عليهم طبيعة حياتهم الصحراوية· من هذه المهارات الأخرى القيافة والدلالة· فهناك أدلاء مشهورون مثل حجول الذي يضرب به المثل ومثل جفران المعكلي دليلة الأمير محمد الرشيد وابن هدبا دليلة الملك عبد العزيز بن سعود وخميس ابن رميثان الشمري دليلة شركة أرامكو. العيش في الصحراء المفتوحة ينمي لدى البدو قوة الملاحظة البصرية بشكل غير عادي· عالم البدو عالم بصري يقوم على دقة الملاحظة، يتفرس أحدهم في وجهك ويقول لك من أبوك ويعرفك من موطئ قدمك البارحة· ويفتخر الفتى البدوي بصعوده المرقب أو الرجم حتى يشيم البرق "يخيل البرق" ويعرف مواقع سقوط الغيث، أو "يِرْقِب" أي يمد بصره ليتفحص الأفق البعيد تشوّفا لأي عدو مغير أو خطر داهم أو، إن كانوا غزاة، غنيمة ينهبونها· ينظر البدوي إلى المعالم الجغرافية كما ننظر نحن إلى إرشادات الطريق أو إلى خريطة المدينة، إنه يتفحصها، يقرؤها، يحفظها ويطلق عليها أسماء. بحكم حركية البدوي وترحاله الذي لا ينقطع وغزواته التي لا تفتر تنشأ بينه وبين الجغرافيا علاقة من نوع خاص يعكسها ثراء اللغة العربية بالمصطلحات الطبوغرافية والتضاريسية· ويتفنن الشعراء في تخصيص مواضع معينة في القصيدة تستمد قيمتها مما يرد فيها من أسماء لمواقع جغرافية ومظاهر تضاريسية هي بمثابة موارد القبيلة ومفاليها وحدودها ومعالمها ومراتع أهلها ومدار تجوالهم ومستودع ذكرياتهم· ففي موضوع الرحلة مثلا يورد الشاعر أسماء الخلول والموارد والمعالم التي يمر بها في طريقه، وفي الاستغاثة يورد الشاعر قائمة بأسماء الخباري والفياض والرياض والمراعي التي يتمنّى لها السقيا وأن يهطل عليها المطر، وفي القصائد الحماسية يحدد الشاعر ديرة قبيلته ويذكر أشهر مواقعها ومواردها ومراعيها التي يؤكد استعداد فتيان قبيلته للدفاع عنها.
إنشرها