سراب أكياس الذهب.. بين سوق جدة وسوق الأسهم

<a href="mailto:[email protected]">dr_saaty@yahoo.com</a>

الهلع الذي اجتاح سوق الأسهم السعودي في الشهر الماضي يذكرني بالهلع الذي اجتاح السوق التجاري في جدة في الستينيات الهجرية بسبب قصة أكياس الذهب التي ضلت طريقها من شركة باقعر إلى شركة الشربتلي.
ولقد احتلت قصة أكياس الذهب مساحة عريضة في التاريخ التجاري لمدينة جدة حتى أصبحت هذه القصة من الموروثات الشعبية يتناقلها الخلف عن السلف حتى الآن.
ووجه الشبه بين أكياس الذهب في سوق الأسهم وأكياس الذهب في سوق جدة هو أن صغار المستثمرين ذهبوا زرافات ووحدانا إلى سوق الأسهم بعد أن باعوا ما فوقهم وما تحتهم بأمل أن يجدوا أكياساً من الذهب في السوق وعندئذ يغادرون عالم الفقر إلى عالم الثراء والمال، ولكن إرادة الله شاءت أن يحدث ما حدث وضاعت أموالهم وأخذوا يضربون أخماساً في أسداس ويندبون حظهم العاثر.
ورغم مرور نحو 60 عاما على قصة أكياس الذهب إلا أن الحكاية ما زالت حتى الآن يضرب بها المثل وتحتل مساحة كبيرة في أحاديث المجالس في جدة.
والقصة تقول إن تاجرا في مدينة جدة كان يدعى باقعر وهو أحد تجار الأرزاق المعدودين يومذاك اشترى صفقة من الأرز الهندي الفاخر، وأن الكمية شحنت له في باخرة، وأن الشاحن الهندي دس أكياسا صغيرة مليئة بالذهب ووضعها داخل أكياس الأرز دون أن يخبره بها خوفا من تفشي سرها وكانت الأكياس لتسوية حسابات قديمة بين المصدر والمستورد. ولقد أراد الشاحن أن يؤجل إبلاغ با قعر عن أكياس الذهب حرصاً منه على سرية الشحنة حتى تصل إلى جوف مستودعات با قعر، فيضمن بذلك أن الذهب دخل مع أكياس الأرز في حوزة ممتلكات باقعر وعندئذ سوف يبلغ بها ويسوي حساباته معه.
وأثناء سفر شحنة الأرز الفاخر وقبل أن يعرف ما في داخل أكياس الأرز استطاع با قعر أن يبيع الشحنة بهامش ربح مغرٍ إلى تاجر آخر اسمه الشربتلي، وبذلك تسرع في بيع صفقة الأرز للشربتلي، وهي لَمَّا تزل على ظهر الباخرة قبل أن تفرغ حمولتها وتصل إلى مخازن با قعر. ولقد قام الشربتلي كمالك للأرز بتفريغ الباخرة وأودع حمولتها كاملة في مستودعاته التي كان يسميها "الشونة".
والشونة مستودع كبير للشربتلي يقع في منتصف شارع قابل الشهير في قلب جدة القديمة، ومازالت الشونة في مكانها حتى الآن.
وبعد أيام قلائل تلقى با قعر برقية من الهند تخبره أن أكياساً من الجنيهات الذهبية المعروفة باسم (جنيه جورج) دست داخل أكياس الأرز لتسوية الحسابات بينهما.
وهاج با قعر وسقط من طوله واتصل على عجل بالشربتلي وأخبره أنه يريد إلغاء الصفقة، أو يستعيد شراءها منه بضمان الربح.
ولكن الشربتلي واجه القضية بحجم ذكائه المعهود، حيث رفض فسخ عقد الشراء لأنه سوف يربح في بيعها أكثر من إعادة بيعها إلى با قعر.
وكان الشربتلي وهو من كبار التجار الشطار يومذاك.. كلما لاحظ تشدد باقعر في إلغاء الصفقة.. ازداد هو تمسكا بتنفيذها.
وأراد با قعر أن يقوم بمبادرة قوية لإثناء الشربتلي عن بيع صفقة الأرز فهرع إلى مكتب الشربتلي وهو يسابق الريح وقابله وجها لوجه وصارحه بالحقيقة (الذهبية!!).
وحينما سمع الشربتلي رنين الأصفر لمعت عيناه وهز رأسه من أعلى إلى أسفل وتغير لون وجهه حتى اقترب من صفرة الذهب وبدت منه ابتسامة غامرة، ثم أعلن – في هدوء تام – تمسكه بالصفقة، وقال له: يا شاطر البيع نافذ شرعاً، والأكياس التي استلمتها هي أكياسي بكل ما فيها.
وفي نهاية الأمر لم يستطع باقعر أن يقنع الشربتلي، وما زالت أكياس الذهب حكاية من الحكايات التي يتداولها أهالي جدة بالمبالغات أحياناً وبالهزل أحياناً أخرى، حتى أصبحت هذه الحكاية من الموروثات الشعبية لتجار جدة.
ولكن الذين يقصون هذه الحكاية الآن يؤكدون صحتها أي أن أكياس الذهب قد وصلت إلى الشونة وأن با قعر خسر الصفقة الذهبية إلى غير رجعة.
وإذا كنا نعتبر با قعر من صغار المستثمرين وأن الشربتلي من الهوامير في سوق جدة، فإن صغار المستثمرين في سوق الأسهم قد دفعوا ثمن الهبوط الحاد الذي تعرض له سوق الأسهم في الشهر الماضي وما زالت ذيوله بين مد وجزر.
ولكن – من وجهة نظرنا – فإن الهبوط الحاد الذي تعرض له السوق في الشهر الماضي.. يعتبر تجربة مفيدة للسوق ويجب ألا يأخذنا القلق بعيداً عن الحقائق المحيطة بالسوق لأن صعود وهبوط أسعار الأسهم ظاهرة طبيعية في كل أسواق الأسهم في العالم، بل نستطيع القول إن صعود وهبوط أسعار الأسهم سمة من سمات الأسواق المالية ولولا ذلك الصعود وهذا الهبوط لما سمي بسوق الأسهم. والمهم أن نستكمل الضوابط والقوانين التي نقيم عليها سوقا تتمتع بالكثير من الاستقرار والنمو الطبيعي.
وإذا استقرأنا كل المؤشرات التي تحوط بسوق الأسهم السعودي فإننا نجده سوقاً واعداً ومربحاً، ولا يمكن أن يكون عكس ذلك، ولاسيما أن الدولة تتجه بكل قوة إلى دعم السوق وتعد العدة الآن لبيع جزء من أسهمها في كبريات الشركات لتسديد جزء من الدين العام، وكذلك اقتراب العديد من الشركات العملاقة من إجراءات الدخول في تداولات السوق بالإضافة إلى السماح للمقيمين بالبيع والشراء وكذلك تجزئة أسهم الشركات.. كل هذه الإجراءات سوف تعطي للسوق الكثير من المهنية العالية التي تكرسه كسوق أكبر لكل أسواق الأسهم في منطقة الشرق الأوسط.
وعموما فإن السوق السعودي بعد الإصلاحات التي أمر بتنفيذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله يتقدم باتجاه المهنية والتوازن، أي أن الصعود الجامح للمؤشر لن يعود إلى المؤشر كما أن الهبوط الحاد لن يعود – بإذن الله – إلى المؤشر، وسوف يرتفع المؤشر وينخفض بمعدلات مقبولة ومعقولة.
المهم أن التجربة المريرة التي مرت على السوق في الشهر الماضي لن تمر ببلاش بل سوف تكون درساً عميقا لهيئة سوق المال ودرساً عميقا لكل المتعاملين من صغار المستثمرين قبل كبار المستثمرين، وما يقال إن صغار المستثمرين هم أكثر المتضررين ليس صحيحاً بل إن المتضررين كانوا من كبار المستثمرين وصغارهم على السواء وكلنا في الهم سواء، وأعرف هامورا كبيرا قال لي لقد خسرت ثلث ثروتي بسبب الوهن الذي أصاب السوق في الشهر الماضي ولكن ما زال الأمل يجانحه في التعويض بعد أن توفر للسوق أسباب قيامه من عثرته والعودة إلى نشاطه على أسس أكثر موضوعية وشفافية.

<a href="[email protected]">[email protected]</a>

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي