نظراً للطبيعة المتغيرة للظروف الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى التغيرات التي تطرأ على بيئات العمل وطرق الإنتاج، تتزايد الحاجة إلى تكييف جزئيات الاقتصاد للتعامل مع هذه المتغيرات من خلال تطوير هيكله أو إدارته ضمن مفهوم الإصلاح الاقتصادي. وكجزء من هذا التكييف الاقتصادي، قدمت المملكة برنامجاً شاملاً لإصلاح الاقتصاد السعودي يرتكز على تنويع الدخل، وزيادة مساهمة القطاع الخاص من خلال برنامج معلن للتخصيص واستحداث مجموعة من الأنظمة وتطوير بعض الأنظمة القائمة وإعادة هيكلة مجموعة من الوزارات وإنشاء العديد من الهيئات لتتولى مهام الإشراف على قطاعات بعينها. هذا التوجه أتى مكملاً للتوجه العام للدولة نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي أخذ صبغة رسمية عام 1992م بتقديم نظام الحكم، وإنشاء مجلس الشورى، وغيرها من القرارات ذات الصلة.
يبدو جلياً أن هذا البرنامج وُضع لكي يُنفّذ وينجح وليس لغرض الاستهلاك الإعلامي، والدليل على ذلك مستوى الالتزام بالتنفيذ الذي نلمسه من القيادة في كل مناسبة، إضافة إلى التطبيق الفعلي لجزء ليس بالهين منه. ويحمل هذا البرنامج (ضمناً) خطة عمل، ولضمان نجاح هذه الخطة فإن هناك متطلبات أساسية عامة لنجاحها، منها ما يتعلق بالالتزام الدائم بالتنفيذ، والرفع من فعالية الأجهزة الإدارية القائمة على التنفيذ، والمتابعة والتقويم المستمر لعملية التنفيذ، وغير ذلك من المتطلبات. كما أن هناك في المقابل "متطلبات خاصة" لنجاح البرنامج وهي تتعلق إما بكامل البرنامج وإما بقطاعات محددة معنية بالتطوير. وبما أن التخصيص وتوسيع مشاركة القطاع الخاص يمثلان جوهر برنامج الإصلاح الاقتصادي السعودي، فإن توافر التمويل اللازم لهذا التوسع يعد أحد أهم متطلبات النجاح الخاصة. بالطبع، هناك أكثر من مصدر لهذا التمويل منها الاقتراض المباشر من البنوك المحلية أو الأجنبية (أو كلاهما) وهذا يعد أحد الأساليب الأقل كفاءة نسبياً لاعتبارات مهمة، منها ما يتعلق بقدرة البنوك المحلية على توفير هذا الحجم الهائل من التمويل دون الإضرار بوظائفها الأخرى، وأيضاً الآثار السلبية للاقتراض من البنوك الأجنبية من ارتفاع التكلفة أحيانا نتيجة لاعتبارات سياسية لهذه البنوك، إضافة إلى الآثار المالية السلبية لمثل هذا الاقتراض، ومنها على سبيل المثال لا الحصر حالة "عدم تلاؤم قيمة العملة بين أصول وخصوم المنشآت" currency mismatch وهي ظاهرة سلبية تتفاقم آثارها عبر الزمن وتتجلى عندما تكون نسبة كبيرة من خصوم المنشأة مقيّمة بعملات أجنبية (نتيجة للاقتراض) بينما نسبة كبيرة من أصولها مقيّمة بالعملة المحلية، مما يجعل هذه المنشآت بشكل عام عرضة بشكل أكبر لمخاطر تقلبات أسعار الصرف وأسعار الفائدة العالمية وأزمات أسواق المال العالمية.
وفي المقابل، يأتي خيار التمويل الأفضل نسبياً الذي يتمثل في الاقتراض من خلال قنوات السوق المالية الاكتتاب الأولي، وزيادة رأس المال بالاكتتاب، وإصدار السندات (الصكوك)، وغيرها الكثير والكثير من الأدوات). من نافلة القول، إن وجود هذه القنوات ومدى فعاليتها يرتبط (وبقوة) بمدى تطور وعمق السوق المالية المحلية، وهذا التطوير لا يتم بين عشية وضحاها، فهو هيكلي بطبعه يقوم على إنشاء وتنمية منظومة مؤسسية وتشريعية وتنظيمية للسوق المالية. وقد جرى العرف على أن التطوير المؤسسي للسوق المالية يجب أن يتم في مراحل متتالية financial sequence، ففي المرحلة الأولى يتم تطوير سوق محلية للأسهم تتسم بالعمق والكفاءة والتداول النشط، وفي المرحلة الثانية، يتم تطوير سوق للسندات (الصكوك) وأدوات الدين الأخرى، وفي المرحلة الثالثة (وهي مرحلة الإبداع) يتم استكمال المنظومة اللازمة لإيجاد المجال لتطوير وسائل تمويل مختلفة تواكب حاجة طالبي التمويل (كإيجاد سوق لخيارات الأسهم مثلاً). ومن هذا المنطلق، لا أجد غضاضة في تسمية السوق المالية "القلب النابض" لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في المملكة. فبموتها يموت البرنامج أو يعتريه المرض. ومن هنا تأتي أهمية المحافظة على تماسك سوق الأسهم واستمرار نشاطها كشرط أساسي للخروج من المرحلة الأولى لتطوير السوق المالية. فالنجاح في هذه المرحلة يتطلب توافر العمق والكفاءة والتداول النشط في سوق الأسهم. والعمق والكفاءة بحاجة إلى المزيد من الوقت وتكثيف الجهود وتعاون الجميع عند تطبيق نظام السوق المالية، أما التداول النشط فهو مرتبط بقدرة ورغبة المتعاملين جميعاً على الاستثمار في السوق وثقتهم بها. تلك الثقة التي ما إن تُفقد حتى تخور قوى السوق!
خلال هذا الشهر، رأينا كيف فقد المتعاملون شهية الشراء ما أصاب مستوى التداول اليومي بهزال مثير للقلق. بعيداً عن أسباب هذا "السلوك الغامض" لسوق الأسهم وما تحوطه من تكهنات وخرافات! رأينا كيف أصبحت الحاجة ملحة إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذه الحالة حتى لا تتفاقم مضاعفات المرض، وتطول الجسد الاقتصادي برمته. فالأذى لم يتوقف عند تلاشي مدخرات المواطنين وبالتالي تهالك قواهم الشرائية، بل تجاوزه إلى إنهاك "قلب الإصلاح الاقتصادي" لدرجة ربما كانت لتتسبب في تباطؤ وتثبيط برنامج الإصلاح من خلال تأخير تطوير السوق المالية تأخيراً مكلفاً. لكن مجموعة القرارات الصادرة في يوم الإثنين 27 آذار (مارس) أتت لتضع حداً لهذا الإنهاك، ولترسخ مبدأ "الحاجة" (وليس الرغبة!) لسوق مالية متطورة .. حاجة تماثل حاجة الجسد للقلب الصحيح! هذه الحاجة قادرة على إعادة سوق الأسهم "قسراً" إلى "عنفوان نوعي" طويل المدى!
تعريف
انهيار السوق: يسود اعتقاد أن انهيار السوق المالية يأتي في حال خسارة مؤشر سوق الأسهم 20 في المائة أو أكثر من قيمته خلال فترة زمنية قصيرة، بينما الواقع والمنطق يقول إن انهيار السوق المالية يتجاوز هذا المفهوم. حيث ينشأ "الانهيار الحقيقي" عندما تصاب السوق المالية إجمالاً بحالة من الشلل يمنعها عن أداء وظائفها الاستثمارية والتمويلية الأساسية ولفترة زمنية طويلة قد تتجاوز السنوات.
