دولة بحجم المملكة ومكانتها بدون نقل عام!! هذه نقيصة (3 من 3)
لا حاجة بي إلى تذكير القارئ الكريم بأن مرفق النقل العام في كل بلاد الدنيا معان ماديا أي أن الحكومة تقدم إعانة نقدية لهذا المرفق, وهي مجبرة غير مخيرة, لأنها هي المستفيد الأول من وجود نقل عام منظم لعدة أسباب, أولها: حق المواطن الذي لا يستطيع امتلاك سيارة في توفير وسيلة نقل آمنة أمامه بتكاليف رمزية تتحمل الحكومة الفرق بينها وبين التكاليف الفعلية, وهذا ليس منة من الحكومات, بل يعد من أبسط حقوق المواطن في المال العام, وثانيها: أن توفير وسيلة النقل بتكاليف رمزية منخفضة يحفز المواطن الفقير وغيره من المقيمين على استعمالها بدلا من التفكير في امتلاك سيارة, وثالثها: أن ذلك يخفض الإقبال على شراء السيارات, وتكدسها أمام المنازل وفي الشوارع, وما يترتب على ذلك من مشاكل تواجهها الحكومة, تتمثل في الإنفاق المتزايد على تطوير أجهزة الأمن والمرور, وتوسعة الشوارع ومواقف السيارات, وهو إنفاق يفوق بكثير ما يقدم من إعانة, ومن ثم كان من باب الخطأ لدينا إلغاء الإعانة التي كانت تقدم للشركة, الأمر الذي دفعها إلى مغادرة المدن التي يعد النقل فيها مكلفا ومخسرا, والبحث عن المجالات التي تحقق دخلا مجزيا, مثل النقل بين المدن, والنقل المدرسي, ونقل المجموعات, والعقود الخاصة, سعيا منها إلى الاعتماد على نفسها في تحقيق الأرباح لمواجهة الخسائر التي ستُمنى بها نتيجة إلغاء الإعانة من جانب, وعدم تمكينها من ممارسة حق الامتياز!!
ومن ثم يسود لديّ اعتقاد بأنه لو كانت هناك وسيلة نقل عام منتظمة في المدن لما اندفع الناس إلى امتلاك السيارات, هذا الاندفاع المحموم, ولما رأينا هذا السيل الجارف من المركبات (1) الذي سيظل يتدفق بغزارة ما لم نعِ خطورة الوضع, ونعمل على تدارسه.
أحيانا تحس بالغبن والامتعاض عندما تسافر إلى بلد آخر, حتى لو كان أحد البلدان الصغيرة أو الفقيرة, التي لا تملك من الإمكانات شيئا, مقارنة بما نملك, ومع ذلك تغريك وسيلة النقل العام فيها باستخدامها لما تراه من هيئتها ونظافتها ودقة مواعيدها, وهو ما حصل لي في الصيف الماضي عندما كنت في زيارة لجمهورية التشيك, التي تعد من الدول الفقيرة في مواردها وإمكاناتها الاقتصادية ومع ذلك يبهرك وضع النقل العام فيها في كل شيء, ولا سيما في الانضباط في المواعيد. إذ بإمكانك أن تضبط ساعتك على مواعيد الحافلات, حقيقة لا قولا, إلى درجة أن الحافلة لو وصلت إلى الموقف قبل الموعد المحدد بدقيقة أو اثنتين, فإنها تنتظر خارجه لكي توجد في الموقف في الموعد المحدد!!
وفي معظم الدول, إن لم تكن كلها, تتوافر وسائل نقل رديفة للنقل العام, مثل قطارات الأنفاق, والعربات الكهربائية فوق الأرض, إلى جانب الحافلات, حيث يكون بإمكان الراكب الاختيار من بين هذه الوسائل تبعا للمسافة والجهة التي يقصدها, إلا نحن لا يتوافر لدينا شيء من ذلك, ومن الصعب توفير وسائل مثل قطارات الأنفاق في الوقت الحاضر, بعد أن نشأت ونمت وتشابكت المدن, وأصبحت التكاليف باهظة, وبعد أن فاتنا التفكير في ذلك في وقت مبكر, كما هي طبيعتنا في التخطيط وبناء الاستراتيجيات, الذي لا يأتي إلا بعد مواجهة المشكلات وتفاقمها وتعقدها, مع أنه ليس من المستحيل الآن تبني بعض الحلول المساعدة التي يمكن عمليا تنفيذها, مثل الجسور المعلقة, والأنفاق تحت التقاطعات.
لكن ما يستدعي التأكيد هنا هو أن عدم توافر الوسائل الرديفة كان يحتم علينا المحافظة على أيسرها وأقلها تكلفة وهو الحافلات, وذلك بحماية حق الامتياز الممنوح للشركة, والاستمرار في تحمل إعانة النقل داخل المدن, وهذا الوضع هو الذي أفضى إلى ما نحن فيه اليوم من حشد هائل للسيارات في مدننا يقدر بتسعة ملايين سيارة, وهو ما يقارب تعداد سكان المملكة من المواطنين والمقيمين, إذا استبعدنا منه من لا يستطيعون الحصول على رخص القيادة, مثل النساء, ومن تقل أعمارهم عن السن القانونية.
هل من حلول للمشكلة؟
يبدو لي أن الكاتب, أي كاتب, حينما يطرح مشكلة ما, فإنه غير مسؤول عن تقديم الحل لها, وإنما مهمته تنحصر في تلمس هموم الناس وطرحها, والتعبير عنها بأسلوب موضوعي يبتعد عن المبالغة وتهويل الأمور, يستهدف لفت النظر, وتسليط الأضواء, وشد الانتباه, لمن يسألون عن حلها, على افتراض أن المسؤولين ربما تلهيهم المشاغل اليومية, وازدحام جداولهم بالمواعيد والاستقبالات عن التفكير فيها, أو ملامستها عن قرب للإحساس بمعاناة المتعاملين معها, مثلما هو الحال بالنسبة لمشكلة النقل العام, إذ يستبعد أن يستخدم المسؤول هذه الوسيلة, ولو حتى من قبيل الاطلاع على واقعها, ولو حصل ذلك, فإن أي مسؤول مسكون بحب الوطن لن يسكت على وضع كوضع النقل العام لدينا!!
ومن جهة أخرى, فإنه يفترض أن تهتم الجهات المسؤولة عن هذا الوضع بإجراء دراسات وبحوث ميدانية وغير ميدانية لسبر المشكلة وتشخيصها واستنباط الحلول لها, وإذا وجد شيء من ذلك ولم يؤخذ به فتلك مصيبة, وإن لم يوجد فالمصيبة أعظم!
على أنه يمكن التركيز في مجال تلمس الحلول على أمور عديدة, يأتي في مقدمتها:
1 ـ لا بد من تكليف الشركة صاحبة الامتياز بأداء ما التزمت به وتمكينها من ذلك بكل الوسائل.
2 ـ لا بد أن يسبق ذلك أو يتزامن معه حل مشكلة الحافلات الخاصة إما بالتعويض المادي عن سياراتهم وتوجيههم إلى وزارة العمل لتوفير فرص العمل الملائمة لهم, وإما إلزام الشركة بشراء سياراتهم وتوظيف من يرغب لديها في وظائف سائقين أو غيرها برواتب مجزية, وفقا لعرضها فيما مضى.
3 ـ التزام الحكومة بدفع إعانة للشركة تقتصر على نشاط النقل في المدن, بحيث ينظر له بصفة مستقلة عن بقية أنشطة الشركة, على أن تشمل الإعانة تسديد ما يقع من خسارة, إلى جانب نسبة ربح معقولة للمساهمين.
4 ـ ضرورة إعادة تنظيم سيارات الأجرة, على أن يراعي التنظيم الضوابط الآتية:
ـ تشجيع شركاتها ومؤسساتها على الاندماج في كيانات قوية تستطيع تقديم الخدمة بشكل أفضل.
ـ منع التجوال في الشوارع, بعد تخصيص مواقف لها في الميادين والأسواق المركزية والشوارع, ومنع الغير من استخدام تلك المواقف بجزاءات رادعة.
ـ السماح لها, وبشكل عاجل, باستخدام أجهزة النداء عن بُعد, ليتمكن الراغبون من استدعائها وقت الحاجة.
ـ إلزامها بتشغيل عدادات الأجرة, ووضع عقوبات على من لا يلتزم بذلك, على أن يصحب ذلك توعية للناس تركز على أن استخدام العداد يحقق العدالة, ويحول دون المبالغة والاستغلال.
ـ الإسراع في توطين "سعودة" السائقين, للفوائد الكثيرة التي سوف تتحقق من جراء ذلك, وعدم الإصغاء إلى أي أعذار قد تساق لعرقلة ذلك.
ـ على بنك التسليف أن يتوسع في مشروع إقراض المواطنين لتملك سيارات الأجرة, على أن يلتزموا بتشغيلها من خلال شركات مرخصة.
ـ السماح للشركات, بل إلزامها, بإدخال أنواع أخرى من سيارات الأجرة مثل السيارات ذات المقاعد السبعة (الليموزين), وسيارات (الفان), وعدم الاقتصار على ما نراه من سيارات الأجرة الحالية, لأن ذلك يعوق استفادة العائلات الكبيرة والمجموعات منها.
5 ـ لا بد من إعداد الدراسات لبناء قطارات أرضية كهربائية تكون مهمتها نقل الحركة والركاب من أواسط المدن إلى أطرافها وبالعكس, ومن شأن هذه الوسيلة الإسهام في النقل وتقليل الاعتماد على السيارات, وحماية البيئة, وقد سرنا أن سمعنا أن الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض قد فكرت في تجربة هذه الوسيلة في طريق الملك عبد الله, غير أن الدراسة يجب أن تشمل المدن كافة, من منطلق وطني واستراتيجي, وأن تتضافر جهود الجهات ذات العلاقة كافة, مثل الهيئات العليا لتطوير المدن, الأمانات, وزارة النقل, الإدارة العامة للمرور, ومعاهد ومراكز البحوث في الجامعات لحلها.
وغني عن التأكيد أن الوقت مهم, والمشكلة تتراكم وتكبر, ووزر تركها وإهمالها يطول كل ذي علاقة لم يقم بما يجب عليه أمام الله والوطن والمواطن.
والله من وراء القصد.