لعبة التوقعات والجسارة وقوة الأعصاب في البورصات العالمية
بشكل عام لا يتناسب الانغماس في الأسواق المالية مع الأشخاص ضعاف الأعصاب حتى في ظل الظروف العادية. ولكن في هذه الأيام تتعرض جسارة المتعاملين في البورصات واستعدادهم للمجازفة لامتحان من نمط خاص. ومن الممكن رؤية أعراض توتر أعصاب المستثمرين بجلاء ووضوح مع ارتفاع أو هبوط الأسعار سواء بالنسبة للأسهم أو السندات أو العملات، وفي الحقيقة أن التذبذبات الحادة التي تشهدها العديد من بورصات الأسهم حول العالم ترافقت في الوقت نفسه مع حركة تصحيح للأسعار. ويلاحظ أيضا أن عدد الخاسرين يفوق في الغالب عدد الرابحين في هذه الأسواق فحتى في أيام التعامل التي تسودها أجواء انفراج نسبي ترتفع الأسعار في الغالب بسرعة تقل عن سرعة هبوطها.
وخسر مؤشر داو جونز الذي يعتبر أهم باروميتر لقياس أداء البورصة في شارع وول ستريت المالي نحو 500 نقطة أو ما يعادل 4ر4 في المائة خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة ، بينما فقد مؤشر داكس للأسهم الألمانية مند منتصف أيار( مايو ) نحو 680 نقطة ، وبالتالي تكون أسهم شركات داكس الثلاثين قد خسرت ما معدله 14.4 في المائة من قيمتها، وكذلك في بورصة طوكيو، حيث يعتبر مؤشر" نيكاي – 225 " أهم معيار للمزاج السائد، هبطت أسعار الأسهم خلال الفترة نفسها 13 في المائة في المتوسط . لقد استطاع مؤشر نيكاي في نهاية أسبوع التعامل الأخير أن يكسب نحو 400 نقطة أي ما نسبته 8ر2 في المائة ولكن بقيت محصلة الشهر سالبة بما مقداره 1983 نقطة . وقد كانت أوضاع أسواق الأسهم في البلدان الصاعدة مشابهة لذلك تماما، بل إن قيم الأسهم تدهورت في العديد من الحالات بوتيرة أعلى من الدول الصناعية .
لقد تبخر منذ زمن ذلك المزاج الربيعي الجميل : ففي ذلك الحين أدى العديد من عمليات الاندماج والاستحواذ والنتائج ربع السنوية المشجعة للشركات إلى دفع أسعار الأسهم إلى مستويات عالية . أما الآن فإن السبب الرئيسي لهذا الجو المضطرب هو سلسلة الزيادات في أسعار الفائدة الرئيسة التي أقرتها البنوك المركزية ابتداء من البنك المركزي الأمريكي ومرورا بالبنك المركزي الأوروبي وانتهاء بالبنوك المركزية للهند وتركيا، وكذلك احتمالات حدوث تقلص في السيولة العالمية المتاحة خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، حيث إن الكثير من المستثمرين يخشون من أن يكبح النمو الاقتصادي الذي تحقق حتى الآن بشكل أفضل مما كان متوقعا.
لهذه الأسباب يسود قلق واسع من احتمال حدوث تسارع في التضخم، وقد ألمح بن بيرنانكيه رئيس البنك المركزي الأمريكي وبعض زملائه من مجلس السياسات النقدية إلى ضرورة رفع سعر الفائدة الأساسي مرة واحدة أخرى على الأقل. وسيتم دلك خلال جلسة المجلس المقرر انعقادها في نهاية شهر حزيران (يونيو) الجاري ليرتفع سعر الفائدة الأساسي من 5 إلى 25ر5 في المائة. وهناك تكهنات في الأسواق الآجلة بأن ثمة احتمالا بالإعلان عن زيادة إضافية في أسعار الفائدة في آب (أغسطس ) المقبل .
ولهذا لوحظ ميل منحنى العوائد مرة أخرى بحذر إلى الاعتدال حيث يتوقع ألا يزيد عائد سندات الدين الأمريكية لسنتين على 5.17 في المائة، أما السندات لعشر سنوات فلن يتجاوز عائدها حدود 5.13 في المائة. ومن هنا تسمع، بين الحين والآخر، تحذيرات تعبر عن الخشية من أن يبالغ البنك المركزي الأمريكي في استخدام سلاح الفائدة مما قد يؤدي إلى تحول الفتور الراهن في الدورة الاقتصادية إلى كساد حقيقي . فمثلا يشكو ديفيد روزنبيرج من بنك ميريل لينش في نيويورك، من أن المركزي الأمريكي يضحي بصحة الاقتصاد لا لشيء إلا لاستعادة المصداقية لدوره كحامي حمى عملته المستقرة . والحقيقة أن بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي ليس وحده الذي يسير على طريق زيادة أسعار الفائدة، حيث بدأ البنك المركزي أيضا، وإن كان في وقت لاحق ، في انتهاج سياسة نقدية تقييدية مما أوصل سعر الفائدة إلى 2.75 في المائة، بعد ثلاث خطوات جرى زيادة سعر الفائدة في كل منها بربع نقطة مئوية وذلك منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
ومع ذلك فليست هذه هي نهاية الطريق وفقا لتقديرات الخبراء وتوقعات البنك المركزي الأوروبي للاتجاهات التضخمية. فالخبراء العاملون لدى باركليس كابيتال على سبيل المثال يتوقعون أن يصل سعر فائدة إعادة التمويل في الفضاء الأوروبي إلى 3.25 في المائة خلال الشهور القليلة المقبلة، وربما يصل إلى 3.5 في المائة مع نهاية العام، حيث تكون البداية زيادة أولى متوقعة في آب (أغسطس ) المقبل.
ويرى الاقتصاديون العاملون لدى بنك الاستثمار في قرار البنك الوطني السويسري أخيرا زيادة أسعار الفائدة من 2.25 إلى 1.5 في المائة مجرد خطوة واحدة من سلسلة قادمة من الخطوات المشابهة. ففي ضوء معدل النمو البالغ 5ر2 في المائة، والدي يعتبر نموا قويا في الظروف السويسرية، يتوقع إقرار زيادة في أسعار الفائدة مرة في كل ربع من الأرباع القادمة. ويقول خبراء مطلعون إن "سعر الفائدة الأساسي في سويسرا سيصل إلى 2.5 في المائة مع حلول حزيران (يونيو) عام 2007 . وهم يؤكدون بذلك التوقعات بحدوث انحسار في السيولة النقدية على نطاق عالمي. وسيسهم بنك اليابان أيضا إن عاجلا أو آجلا ، في هذا التوجه.
وفي ضوء حساسية الأوضاع السائدة وأحداث الأسابيع القليلة الماضية لا بد من توخي الحذر في أسواق البلدان الصاعدة، حيث إن الأموال الرخيصة قد دفعت، في السنوات القليلة الماضية، العديد من المستثمرين إلى هذه الأسواق لإشباع نهمهم لعوائد مرتفعة، وقد يكون واحد أو آخر من هؤلاء قد تجاهل المجازفة التي يمكن أن تكون كامنة في التعامل مع هده الأسواق، على الرغم من أن نصف هذه الأسواق على الأقل قد حظي في هذه الأثناء بشهادات ثقة " كأسواق استثمارية " . ويوضح ستيفن روش، كبير الاقتصاديين في بنك مورجان ستانلي ذلك بقوله : " لقد بدأت هذه الأوضاع تعكس بالتدريج حجم المجازفة على أسعار سندات الدين وأسعار الأسهم ، مما يعني أن الحركة التصحيحية قد ابتدأت الآن فقط ".