Author

انحسار البداوة

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> أمضى البدو مع إبلهم أربعة آلاف سنة على هذه الصحراء في علاقة تبادلية مع الحضر. لماذا لا يدهشنا هذا الامتداد الزمني السحيق ويحفزنا لنبدأ السعي الحثيث نحو فهم أعمق للبدو وإبلهم وطرق تكيفهم مع الطبيعة الصحراوية، وكذلك علاقة البدو مع الحضر خلال هذا الامتداد التاريخي الطويل! مع مطلع القرن العشرين أخذت البداوة في الانحسار نتيجة عدد من العوامل في مقدمتها التطورات التكنولوجية التي نتج عنها استبدال البدو أسلحتهم التقليدية من رمح وسيف وخنجر بالرشاش والبندقية الأوتوماتيكية متعددة الطلقات مما أدى إلى انهيار قوانين لعبة الغزو، ثم بعد ذلك دخول المكائن الآلية والسيارات إلى الجزيرة العربية مما نتج عنه تقلص دور الإبل في حياة العرب، وأخيرا نشوء الدولة الحديثة وتكريس مفهوم السلطة المركزية. كل ذلك أدى إلى تغلب الحضارة وأفول البداوة واضمحلال قيم الحياة الصحراوية. مع انحسار دور الإبل وتقلص منافعها لم تعد البداوة خيارا اقتصاديا مجزيا وتراجعت أهميتها كوسيلة ناجعة لاستغلال البيئة الصحراوية التي هي أصلا كانت قد أخذت في التدهور. لما جاءت السيارات حلت محل الإبل كوسيلة ناجعة للمواصلات ونقل البضائع والمسافرين، مما نتج عنه انصراف الناس عن الإبل وتدني أسعارها. ومما ضاعف من تردي الوضع أن مجيء السيارات صاحبه مجيء مكائن ضخ الماء مما قضى على استخدام الإبل في السواني لجذب المياه من الآبار. أضف إلى ذلك تغير عادات الناس الغذائية وعزوفهم عن لحوم الإبل وحليبها واتجاههم نحو لحوم الأغنام والطيور والأسماك. وبذلك أصبحت الغنم منافسا قويا للإبل كمصدر للغذاء، خصوصا أن السيارات مكنت رعاة الغنم من نقلها إلى المراعي النائية في قلب الصحراء التي لم تكن لتقدر على الوصول إليها من قبل وجلب الماء لها يوميا من الآبار البعيدة. وكان لذلك أثره في تدهور المراعي الصحراوية لأن الأغنام في رعيها تقضي على الأعشاب وتجتثها من جذورها مما يعوق من نموها في السنوات المقبلة، على خلاف الإبل التي ترعى وهي تسير دون أن تتوقف فهي لذلك لا تقطف إلا جزءا من الشجيرة ويبقى منها ما يكفي لعودة الحياة لها في الموسم المقبل. ومما فاقم من تدهور البيئة الصحراوية ممارسة الاحتطاب الجائر، علاوة على الصيد الجائر، إذ إن السيارات والأسلحة النارية شكلتا سلاحا فتاكا في أيدي هواة رياضة القنص الذين قضوا تماما على الحيوانات الصحراوية من نعام وظـباء ووعول وأرانب، التي كانت تشكل في الماضي مصدرا غذائيا مهما لبدو الصحراء. نظرا لما يمر به العالم بأسره من تطورات هائلة في مجالات التكنولوجيا وثورة الاتصالات ومن تحولات جذرية في النظم والممارسات الاقتصادية والسياسية لم تعد البداوة نشاطا اقتصاديا مجزيا. وأقل ما يمكن أن يقال عن البداوة في عصرنا الحاضر أنها تحرم أبناءها من الخدمات الأساسية التي تقدمها المدينة، بما في ذلك الخدمات الصحية والتعليمية والمصرفية والمواصلات والاتصالات والماء والكهرباء، وغير ذلك من التسهيلات والحوافز والإغراءات التي لم يعد بمقدور البدوي تجاهلها والاستغناء عنها، وأصبح بقاء الإنسان ووجوده المادي والحيوي مرتبطا بتوافرها. أصبح البدو مجبرين على الخضوع للدولة والتخلي عن تنظيمهم القبلي ومضطرين للاستقرار في أطراف المدن والمراكز الحضرية، وهكذا تحولوا إلى ما يشبه المجموعات الإثنية والأقليات التي تعيش على هامش الحياة العصرية نظرا لافتقارهم إلى المهارات الضرورية للتكيف مع الحياة المدنية وما تتطلبه من مهارات مثل إجادة القراءة والكتابة والخبرة في التعامل مع المؤسسات البيروقراطية والدوائر الحكومية، مما يكرس النظرة السلبية تجاههم على أنهم جهلة ومتوحشون. البداوة، كنشاط اقتصادي ووسيلة عيش، ليست مرحلة بدائية من مراحل التطور البشري تسبق الزراعة والاستقرار. لكن ما من شك أن النظام القبلي، الذي يمكن أن يقوم بين الرعاة من البدو وبين الفلاحين من الحضر على حد سواء، مرحلة من مراحل التنظيم الاجتماعي والسياسي سابقة لقيام الدولة التي تعد تجاوزا لنظام القبيلة، لذا فإن نشوء الدولة ونموها وتصاعد قوتها سيكون حتما على حساب النظام القبلي ونقصا من قوة القبيلة. لذا كان من أحد أهم العوامل التي أدت إلى تقويض سلطة القبيلة ظهور الدولة الحديثة. هذا وقد ساعدت الأسلحة الحديثة ووسائل المواصلات والاتصالات المتطورة على تعزيز قبضة الدولة وتمكين السلطة المركزية من مد ذراعها لتحكم سيطرتها على الأطراف النائية وعلى القبائل البدوية في قلب الصحراء مما قضى على استقلالية القبيلة وحريتها في الحركة، ولا سيما بعد ترسيم الحدود بين الدول. تكاد البداوة تختفي من الوجود وهي الآن تحتضر وتموت ببطء كما يموت البعير، ومع ذلك فإننا لم نبدأ بعدُ محاولة استكشاف حقيقتها وحقيقة العلاقة الإيكولوجية التي تربطها مع الحضر، والتي تقوم على التكامل الاقتصادي والتعاون مثلما يشوبها التوتر والصراع. لقد آن لنا أن نتخطى هويتنا الحضرية في كتابتنا التاريخ ودراستنا لمجتمع، وأن نتجاوز تحيزات الكتابة ونحاول فهم الثقافة الشفهية البدوية فهما حقيقيا من داخلها ووفق شروطها هي، حتى نتمكن من رؤية العالم بعيون بدوية. علينا أولا أن نفهم حقيقة البداوة لا كضد للحضارة ورمز للفوضى والدمار وإنما كثقافة متكيفة لاستغلال مناطق إيكولوجية وموارد طبيعية غير متاحة للحضر ولا تتواءم مع طبيعة الحياة المدنية، بعدها علينا أن نعيد تقييم علاقة البدو مع الحضر ونفهم طبيعتها من وجهة النظر البدوية والحضرية على حد سواء. تغلُّب الثقافة الكتابية على الثقافة الشفهية يعني في نهاية المطاف انحسار البداوة وتراثها الشفهي أمام الزحف المدني المدجج بالتكنولوجيا والأيديولوجيا وأدوات الكتابة. الدولة والدين كلاهما مرتبط بالكتابة بما تحمله من تحيزات ضد البداوة. لذا يتعرض البدو في حياتهم اليومية في تعاملاتهم مع الحضر لكل ما تتسم به ثقافة المدن من تحيزات ومشاعر سلبية ضد البداوة التي حفظها التدوين الكتابي منذ أقدم العصور وتراكمت على مر الأجيال، بينما البدو يفتقرون إلى الأدوات الفعالة التي يمكن أن تساعدهم على مواجهة هذا الواقع لأن وسائلهم الشفهية في التلقي والتداول والحفظ غير ملائمة لتخزين المعلومات والمعارف ومراكمتها على المدى الطويل. لا يمكننا اعتبار البداوة في وقتنا هذا سوى مرحلة ثقافية من مراحل التطور البشري التي تخطاها الإنسان مثلما تخطى مراحل أخرى من قبلها مثل مرحلة الصيد ومرحلة الجمع والالتقاط أو مرحلة البستنة horticulture. والهدف من محاولة فهم البداوة الآن ليس محاولة بعثها من جديد أو التشبث بها والحفاظ عليها أو حتى بقيمها ومفاهيمها، فالتطور سنة الحياة والتغير مسألة حتمية. المطلوب هو دراسة المجتمع القبلي والاقتصاد الرعوي والثقافة البدوية دراسة أنثروبولوجية شمولية متكاملة من أجل وضعها في سياقها التاريخي والحضاري الصحيح ومن أجل فهمها فهما حقيقيا وتقييمها تقييما علميا موضوعيا خاليا من التحيزات المدنية والكتابية المتراكمة ضدها عبر العصور.
إنشرها