استَهنّا فاستُهيِنّ بنا
ماذا دهى المجتمعات الغربية المتحضرة التي تبشر بالحرية وتتشدق بحقوق الإنسان أن تعتدي على الآخرين في صميم معتقدهم، يشوّهون دينهم وتعاليمه الحضارية وينالو من رسولهم (صلى الله عليه وسلم) الذي ارتضوا رسالته منهجا ودستورا، فضلا عن محبته وإجلاله وتقديره. لماذا يؤذون الآخرين فيمن يعتبرونه رمزا ونموذجا يقتدون به في خلقه الكريم وحكمته البالغة وبصيرته النافذة وتواضعه الجم ومودته لبني البشر جميعا. لماذا هذا العداء الصارخ على الإسلام دين المحبة، والتعدي على نبي الرحمة وما جاء به من خير للناس كافة، لتستقيم حياتهم ويهنأوا بعيشهم وتطمئن قلوبهم وتتنزل عليهم الرحمات ويرزقهم الله من فضله، ويسود السلام ويعم الخير والنماء، وفي الآخرة رضوان من الله وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
إن المتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدي الرباني، لا يسع المنصفون، المحايدون، الموضوعيون من أهل الأرض قاطبة إلا أن يوقروه ويجلوه. لقد كتب الكثيرون من المستشرقين عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وبينوا سماته وخلقه كمصلح اجتماعي وشخصية مؤثرة في التاريخ الإنساني، بل إن مايكل هارت Michael Hart مؤلف كتاب "المائة الأوائل في تاريخ البشرية" اعتبره الشخصية رقم واحد في قائمته التي ضمت مختلف المبرزين في تاريخ البشرية جمعاء منذ بدء الخليقة حتى وقتنا الحاضر. لقد قام بدراسة تحليلية موضوعية لسير الأنبياء والرسل والعلماء والمخترعين والسياسيين والقيادات الاجتماعية والعسكريين، وجميع من كان لهم إسهامات في تغيير مجريات الأمور وإحداث انقلاب تصحيحي في الحياة البشرية فلم يجد أحدا يستحق ذلك سوى نبي العالمين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم). ليس ذاك فحسب، بل إن صاحبه وخريج مدرسته عمر الفاروق رضي الله عنه، جاء في المرتبة الثالثة مباشرة بعد المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
هذا قول العقلاء المنصفين منهم بكل تجرد وحيادية تامة، لم ننتظر قولهم ولا تزكيتهم حتى نرى ذلك، لكنه استشهاد واستنطاق لشاهد من بني جلدتهم ومقتضى الجدال والنقاش بالحكمة والموعظة الحسنة. حبنا ومودتنا واتباعنا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس تعصباً أعمى ولا نزوة طارئة ولا تعاطفاً شخصيا، إنه بتعقل ودراية وإدراك لجميع المعاني السامية والقيم الراقية والسلوك الحسن في رسالته. إنها رسالة لحياة إيجابية ملؤها المحبة النقية الصافية والسعي نحو المعالي في كل شيء والبحث الحثيث الجاد عن الحكمة، فهي ضالة المؤمن ومبتغاة في كل وقت وحين. السر العظيم وراء محبة ما يربو على مليار ونصف المليار مسلم في مشارق الأرض ومغاربها لرسول الله، رسالته العالمية التي تلغي أي تمايز في اللون أو العرق أو الجاه وتضع تقوى الله ميزانا للتفاضل بين الناس لا أكثر ولا أقل. هذه المساواة الحقة التي منبعها تكافؤ الفرص بين الجميع والتنافس الشريف نحو تحقيق الصلاح وعمل الخير وكل ما من شأنه إعمار الأرض وإحقاق الحق والعدل ونشر السلام الحقيقي الذي تستكين معه النفس البشرية وتطمئن فلا يؤرقها ضيق عيش ولا صروف الليالي والأيام، لأن أمر المؤمن كله خير إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر. لكن المؤمن القوي أحب عند الله من المؤمن الضعيف وكل فيه خير. إنه دين العمل والاجتهاد والبذل والعطاء، فاليد العليا المعطاء خير من اليد السفلى. أتباع الرسول الحقيقيون ليس بينهم متقاعس أو متهاون أو من يغرق في بحر الأوهام والأماني. إنه دين المكاشفة والمصارحة والشفافية في التعامل، بل إنها الخيرية التي تميزت بها الرسالة المحمدية. هكذا تكون الرسالة رسالة فطرة تنسجم مع حاجات الإنسان ومجتمعه، وتدور حيثما دار، فلا رهبانية وانقطاع عن العالم المادي الذي خلق الله نواميسه وأسبابه، فذلل الأرض لبني البشر وأمرهم أن يمشوا في مناكبها وأن يأكلوا من رزقه ويبتغوا من فضله، وفي ذات الوقت ألا يميلوا كل الميل فيطغى عليهم حب الدنيا والشهوات وتتحول الدنيا من سبب إلى غاية في ذاتها تسيطر على فكرهم وتملأ جوانحهم فيسرفون على أنفسهم، فإذا بالغفلة تحيط بهم وقد نسوا أن الله تعبدهم في كل حركاتهم وسكناتهم فتصيبهم معرة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين. من أجل ذلك كان حرصه - صلوات ربي عليه - وهو يبين لجموع الناس في حجة الوداع بكل وضوح حقوق وواجبات المسلم لتضمن سلوكا سويا للأفراد ومجتمعا تسوده الألفة والعدل والسلام والرخاء. فيحدث الناس عن حرمة الدماء والأموال والأعراض ويستوصي بالنساء خيرا. هذه بحق حقوق الإنسان ملخصة جلية في أسمى معانيها وأعلى مراتبها وأوضح صورها وأجلها. عدل مع النفس ومع الآخرين من الناس والحيوان والجماد. إنه نظام متكامل في الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية والقانون والاقتصاد والسياسة. لم يترك شاردة ولا واردة إلا قننها وفق منهج بسيط الفهم عميق المعاني رفيع المستوى. كيف لا وقد تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
في الإسلام "إتيكيت" كما في الثقافة الغربية أي سلوكيات محددة لكل حال ومقام وكل زمان ومكان نسميها "السُنّة النبوية". إحياء هذه السُنّة وتطبيقها تهاون فيه البعض وجهلها البعض والتزمها قليلون فلم تعد ظاهرة في المجتمع الإسلامي في كثير من سلوكيات الأفراد والجماعات، وهذا والله بلاء كبير ووبال عظيم على أمة الإسلام. فكيف تكون الدعوة لمنهج غير مطبق وطريق غير مسلوك، وكيف نكون متحضرين ونحن نتخلى عن قيمنا الحضرية؟! وكيف يحترمون ويوقرون رسولنا وقدوتنا ونحن لا نمجد سُنّته ولا نتبعها. إن عدم الاتباع هو في حقيقة الأمر استهانة بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) فلما استَهنّا استُهِنّا!
هذا لا يلغي مسؤولية الغرب المتحضر الحر من تصرفاتهم الهوجاء التي هي في جوهرها ضد مبادئ الحرية وعناوين التحضر وحقوق الإنسان التي ما فتئوا يذيعون فيها ويبشرون بها، بل يفرضونها على الآخرين بالقوة دون أن تكون لهم الخيرة في ذلك. يا لها من حرية! وبنظرة فاحصة للحرية المزعومة تجدها في كثير من جوانبها تحررا من الأخلاقيات والقيم الإنسانية والعفة، مخالفة للفطرة السليمة التي فطر الله عليها الناس. فمن الإباحية في المأكل والمشرب والملبس إلى العلاقات بين الجنسين الفاضحة إلى التفنن في صناعة أسلحة الدمار الشامل. ولأنهم يؤمنون بعالم الماديات ويكفرون بعالم الغيب جاء نظامهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تحركه وتوجهه الحرية المزعومة المبنية على المنفعة الشخصية البحتة للفرد والمصالح الذاتية الضيقة للجماعات مبدؤهم" نفسي نفسي"!. البقاء للأقوى وصاحب النفوذ والمال والجاه. هذا لا يعني أنه ليس هناك جوانب إيجابية لديهم ولكن هذه الإيجابيات باهظة التكاليف غالية الثمن. فهناك تقدم مادي كبير في المخترعات والصناعات التي تفيد الناس وترتقي بمعيشتهم ولكن ذات الحضارة المنفلتة تبدع في صناعة أسلحة الدمار الشامل وانتشارها حتى غدا العالم قنبلة موقوتة، ناهيك عن سياساتهم التي خلفت الدمار والنزاعات بين الشعوب، فالحربان العالميتان اللتان حصدتا الأرواح وقضتا على الأخضر واليابس وقعت في مهد حضارة الحرية وحقوق الإنسان. بل إن فرض وصايتهم على الشعوب المغلوبة على أمرها وسلب خيراتها وكبت حرياتهم هو ديدنهم وصلب فلسفتهم القائمة على البقاء للأقوى وليس الأصلح. ولن أتحدث عما تخفيه حضارتهم من بهرج الحياة الدنيا من انتكاسة في الأخلاق وتفكك في العلاقات وفراغ روحي لدى الأفراد وانغماس في الشهوات. فالمرء لا يكاد يصدق وهو يرى هذا التقدم التقني والمخترعات والإنتاج الاقتصادي الباهر التي تملأ بلدانهم أن تئن من حالات الانتحار والفقر والاغتصاب والمخدرات والجرائم المنظمة والبؤس والتشرد.
ونافلة القول أن استهزاءهم وانتقاصهم من قدر الرسول هو حمق وتعالي وجهل منبعه حريتهم المنفلتة الانتقائية التي ظنوا أنها تخولهم لقول وفعل أي شيء دون علم وسابق معرفة. لقد أعمتهم الحرية العبثية الغوغائية في الحديث دون رادع أخلاقي يحفظ للآخرين حقوقهم وكرامتهم ويصون أعراضهم ومشاعرهم. بل لقد أسرفوا على أنفسهم وظنوا أنهم بحريتهم المزعومة أفضل الأمم وأرقى الحضارات، وأنهم بذلك يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم ويخرجهم من دائرة الشبهات والتعدي على الآخرين. ولذا جاءت ردة الفعل الشعبية في العالم الإسلامي في مقاطعة بضائعهم موجعة ليس لتأثيرها الاقتصادي وحسب، ولكن لأنها تأتي في السياق نفسه وعلى المبدأ ذاته في أن للناس حرية التصرف في القول والعمل.
رئيس قسم التخطيط الحضري والإقليمي
جامعة الملك فيصل