إدارة العادة.. حينما تتحول إلى بلادة!!

للتوصل إلى أفضل صورةٍ واقعية لما سنحصده في نهاية العمر الوظيفي من عاداتنا الإدارية المتوارثة، استقطع من وقتك الثمين لحظات وسخّرها للجلوس مع شخصٍ تقاعد من وقتٍ قريب! أؤكد لك أيها القارئ الكريم أنك لن تخسر أبداً، فستجد نفسك قد حصلت "مجاناً" على ثروةٍ من المعلومات والخبرات التي ستعزز من موقفك الوظيفي والمهني بصورةٍ لا يمكن قياسها أبداً. وكلما ارتفع المنصب الوظيفي الذي كان يشغله ذلك السيد الكريم، كلما زاد نصيبك من تلك الثروة. أيضاً كلما استقطعت وقتاً أكثر واستمعت بإنصات إلى تجربة أكثر من متقاعد فإن ثروتك من المعلومات ستكون أكثر تنوعاً وأكثر ثراءً. تلك اللحظات الثمينة مع من سبقونا من آبائنا وإخوتنا الأكبر منا في السلك الإداري والوظيفي؛ هي "المدخل" الذهبي لمراجعة وإعادة تقييم ما ربَت عليه وشبّت بيئتنا العملية المحلية. ستفاجأ بالكثير من الحقائق والنتائج، وأكثر ما سيفاجئك من النتائج ما اكتشفه بعض أولئك المتقاعدين من وهمٍ كبير ظلّوا متعلقين به طوال خدمتهم الوظيفية الطويلة العمر! حقائق ونتائج مهمة جداً لن يسعني المجال هنا لأستعرضها لكثرتها، ومع كل تقديري لكل من حمل شهاداتٍ عليا في مجال الإدارة والتطوير والتدريب فلن يصلوا مهما بذلوا من جهد إلى جوهر ما أرمي إليه من ثروةٍ معلوماتية وخبراتية، تتوافر لدى أولئك الرجال والنساء ممن قضوا عشرات السنين يؤدون واجباتهم ومسؤولياتهم الوظيفية دون كلل أو ملل، وفي هذا الشأن بالتحديد أعتقد جازماً بأنهم أجدر من يجب الاستماع إليه والإصغاء، وتوظيف خلاصة تلك التجارب في تطوير أعمالنا الراهنة. ثمَّ، إن هذا ليس موضوع هذا المقال، لذا أوصي بخوض هذه التجربة الفريدة، وأترك لك أخي القارئ الحكم. فما مقدمتي البسيطة هذه إلا بهدف أن تكون فقط إرهاصةً نفسية تمهد ولو بدرجة مقبولة ما سآتي عليه لاحقاً.

الآن، هل لك أن تتخيل كم من العادات السلبية اليومية التي تعجُّ بها أغلب أروقة العمل الإداري في بيئتنا المحلية؟! سواءً في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص، قد تتخيل أنها كثيرة العدد، وهي كذلك بالفعل! لكن تأكد أنك لو أمعنت النظر فيها وتجاوزت بتلك النظرة الفاحصة أشكالها الظاهرة التي لا تعد ولا تُحصى، فستجدها قليلة جداً؛ وستجد قواسمها الأساسية المشتركة معدودة لا تتجاوز عدد أصابع يديك! كيف تفشّت وانتشرت هكذا متجاوزة حدود السيطرة، حتى أصبحت العامل المسيطر الطاغي على مختلف وجوه بيئات العمل المحلية؟ وهل من حلٍّ متاح أمامنا يمكن الاستعانة به لتجاوز تلك المعضلة على طريق التنمية البشرية والإنسانية تحديداً، والتطوير الإداري والاقتصادي بوجهٍ عام؟. نقطة الانطلاق على طريق الحل والمعالجة تبدأ من مدى قدرتنا على الفهم الموضوعي لحقيقة "منبت" بذور تلك العادات السلبية والإيجابية على حدٍّ سواء.

إذاً السؤال الواجب الإجابة عليه: ما العادة هذه بغض النظر عن كونها شخصية أم إدارية أم غير ذلك؟! والإجابة المقترحة وفق تصوري تشير إلى أن العادة تقع في منتصف الطريق المكوّن لكل واحدٍ منا، ذلك الطريق الذي ابتكر متواليته العجيبة المفكر الأمريكي الكبير "ستيفن كوفي"، تلك المتوالية الإنسانية تتمثل في التالي: "ازرع فكرة، تحصد فعلاً. ازرع فعلاً، تحصد عادة. ازرع عادة، تحصد شخصية. ازرع شخصية، تحصد مصيرا". أتاحت معرفة وفهم هذه المتوالية الإنسانية إمكانية تفكيك كثير من السلوكيات الإنسانية الإيجابية منها والسلبية، فماذا يسبق "العادة" التي تتشكل منها شخصية كل واحدٍ منا، ويتحدد من خلال سماتها مصيره في هذه الحياة إما ناجح أو فاشل أو مزيج من الاثنين بنسبٍ متفاوتة؟ منطقتان أساسيتان تُسهمان بدرجة كبيرة في تشكّل العادة الإنسانية؛ المنطقة الأولى: الفكرة. المنطقة الثانية: الفعل "تنفيذ الفكرة"، وبتكرار ذلك الفعل تترسخ الفكرة، وتشكّل فيما بعد مع بقية الأفكار الأخرى للعقل الإنساني التي يتكرر تنفيذها هي أيضاً، مجموعة من العادات تكوّن في مجموعها شخصية كل فرد، ومن ثم تتحقق بقية المتوالية.

وفقاً لهذه المتوالية المهمة، يمكننا من خلال العودة إلى أساس كل عادة متأصلة في بيئة العمل لدينا، والتحقق من صوابها أو خطئها، مع الإشارة إلى أن مسؤولية هذه المهمة تقع على كل الأفراد العاملين أولاً قبل الإدارات المعنية بالتطوير والتدريب الإداري في مختلف الأجهزة والمؤسسات. أهدف من هذا القول، أن أؤكد على قيمة الابتكار كمبدأ أساسي يجب ترسيخه في صلب أي عملية إنتاجية أو إدارية في بيئتنا العملية، وهذا يقوم في الأساس على الرصيد الذي يمتلكه الأفراد العاملون في أي بيئة عمل من هذه القيمة "الابتكار"، نجاحنا الحقيقي مرهون بمدى ما نبتكره ونبدعه، لا بما نكرره من أفعال وأقوال "مقلدة". من أخطر ما ستخرج به من تجربة الإنصات إلى إخواننا من المتقاعدين؛ أن أغلب ما مضى لم يعد موجوداً اليوم! وأن ما بقي فقط "الذكرى" الجميل منها والمؤسف، وأن أجمل ما يتذكرونه ويتشرفون به اليوم، ما كان من إبداعهم وابتكارهم فقط! وأما المتبقي فلا يتعدى كونه لحظات مرّت دون ضجيج، وأن صداها الحقيقي مُجير لغيرهم من الزملاء. البصمة التاريخية الباقية في أذهانهم فقط ما أبدعوه، قد يعمل أحدهم أربعين عاماً كاملة، ولا توجد له أي بصمة خالدة في حياته المهنية، وقد يعمل آخر ربع تلك الفترة، غير أن آثاره الخالدة عالقة في رأسه، سيظل سعيداً بها إلى أن يرحل من الدنيا. التخلّص من آفة التقليد واعتيادها نجاح بحد ذاته! والانصياع لها وقوعٌ غير مأسوفٌ عليه في "فخ البلادة" إلى أن تتسلم "قرار" التقاعد. بين الانطلاق نحو الآفاق العليا وبين تلك "الحفرة" ممثلةً في التقليد وعدم التجديد والابتكار مسافةٌ كبيرة، يعادل مداها ما بين السماء والأرض، فماذا أنت فاعل الآن؟! إلى الأعلى تريد التحليق أم الاستسلام للطريق الآخر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي