بعض الأحيان أجد صعوبة في تخيل حدوث تغيرات أو تطورات في حياتنا العامة تخالف ما تعارف الناس عليه طيلة العقود الماضية، فعلى سبيل المثال هل تخيل أحدكم ذات مرة أن يلجأ القطاع العام لوسيلة الإعلان الصحافي للبحث عن موظف كفؤ لشغل وظيفة وكيل وزارة ؟ وأن يوجه الإعلان لكل المؤهلين في كل مكان مهما كانت أعمالهم الحالية أو أعمارهم ، وأن يقوم بيت خبرة مستقل بالمفاضلة بينهم لاختيار المرشح الأفضل ، مثل هذه الأفكار تكون أقرب للهذيان منها إلى الواقع لأننا في الغالب شعب يميل إلى الركون للسائد الذي يتحول بقدرة قادر إلى ثابت، ثم يختلط بمفاهيمنا ليصبح ضمن المحظورات التي لا ينبغي المساس بها أو مجرد المطالبة بمراجعتها والأمثلة على ذلك كثيرة في حياتنا العامة.
اقرأوا معي هذا الإعلان :"كجزء من المبادرات الإصلاحية لإقامة نظام توظيف حديث وشفاف للقيادات العليا في إدارات القطاع العام ومؤسساته يرتكز على مبدأ الجدارة ويتسم بالشفافية والموضوعية ، تدعو الحكومة اللبنانية – وزارة الاقتصاد والتجارة – اللبنانيين من أصحاب الاختصاص والكفاءة إلى تقديم طلباتهم لشغل منصب مدير عام وزارة الاقتصاد والتجارة". ما سبق كان مقدمة إعلان نشر في إحدى الصحف الدولية وهو موجه لجميع اللبنانيين للبحث عن موظف مناسب لشغل وظيفة وكيل وزارة يتصف بالكفاءة والقدرة والموهبة ..الخ، هو إعلان لجميع من تنطبق عليهم الاشتراطات المطلوبة مهما كان موقعهم الوظيفي أو مكان عملهم الحالي، وحسب معلوماتي فإن مثل هذا الإجراء غير متبع في أغلب دول العالم وخصوصاً العربية منها، لذا أستطيع أن أصفه بالسابقة التاريخية التي قد تؤدي إلى قلب أنظمة التوظيف المعمول بها في كثير من الدول رأساً على عقب، فالدارج أن تتم الترقيات في الوظائف القيادية للموظفين الذين هم على رأس العمل وأن يترك للوزير المختص حرية اختيار أعضاء فريقه، وهذا ما جعل دول العالم الثالث التي ينخر معظم اقتصادياتها الفساد الإداري والمحسوبيات وتعارض المصالح وضعف التأهيل الإداري تراوح مكانها منذ عقود.
أعود للإعلان الذي قادني إلى التساؤل التالي: هل يمكن تطبيق مثل هذه الطريقة لشغل الوظائف القيادية في القطاع الحكومي لدينا بدءا من وظيفة وكيل الوزارة ونزولاً إلى وظائف المرتبة الثانية عشرة؟ وهذا بدوره جعلني أتذكر نظام الخدمة المدنية الذي وضع آليات جامدة للترقيات لا تأخذ متطلبات الإدارة الكفؤة ولا التأهيل أو التدريب المتخصص بعين الاعتبار، فحسب لائحة الترقيات الحالية يشترط لشغل الوظائف المعتمدة بالمراتب (11-12-13) أن تكون الترقية للمرتبة التي تلي المرتبة التي يشغلها المرشح مباشرة وأن يكون المرشح قد أمضى مدة سنتين على الأقل في المرتبة التي يشغلها حالياً، وأن تتوافر لديه خبرة مناسبة لا تقل عن أربع سنوات في طبيعة عمل الوظيفة وبعد كل تلك الشروط يرجح الوزير المختص ترشيح موظف معين لشغل كل وظيفة شاغرة مع ذكر أسباب الترجيح.
لا غرابة أن يتفوق القطاع الخاص على القطاع العام في الإنتاجية والإنجاز فهو لم يقيد نفسه باشتراطات جامدة لا معنى لها في علم الإدارة الحديثة مثل الأقدمية والتدريب غير المتخصص واشتراط سنوات خبرة محددة وغيرها لأنه يعلم أن الكفاءة لا شروط لها وأن التحفيز وقود الإنجاز وأن محاسبة المسؤولية هي التي تحافظ على وتيرة النجاح الإداري.
بدون آليات تأخذ في الاعتبار الكفاءة بمعاييرها الحديثة ومحاسبة المسؤولية لا يمكن بأي حال ضمان شغل الوظائف القيادية بالأكفاء، وهذا ما جعل إحدى الدراسات التي قدمت في منتدى الرياض الاقتصادي الذي عقد أخيرا توصي بأن تطعم الإدارة الحكومية بقيادات من القطاع الخاص من أجل نشر ثقافة إدارية جديدة مختلفة تماما عن الثقافة الإدارية الحكومية السائدة، وهنا أضم صوتي للباحث.
