الكياسة.. يا ناس!
.. مَنْ لا يعرف ديل كارنيجي؟ معظم سكان الأرض يعرفونه، ويعرفون أنه من معلمي البشر في آداب السلوك والتعامل مع الآخرين.. أذكر له موقفا يدل على كياسة وأدب وذكاء وسرعة بديهة، موقف يأسرني حتى الآن، ولا أظن أني متى ما نسيت كثيرا من المواقف الجميلة التي تستوقفني في اطلاعاتي، فإن هذا الموقف لن أنساه، أو سيكون بالتأكيد آخر ما أنساه.
والموقف، أن ديل كارنيجي كان في يوم من الأيام يلقي محاضرة من محاضراته التي يقصدها جمعٌ غفيرٌ من الناس من كل عمر وطبقة.. وبعد أن انتهى من إلقاء محاضرته، تقدمت له امرأة متقدمة في السن وقالت له: "إن الذي دفعني للتقدم إليك وتجاذب الحديث معك، إنما هو ما ذكرته في سياق محاضرتك عن حبك للعجائز من السيدات." ابتسم كارنيجي، وتناول يدها وقبلها، قائلا بعذوبة: "نعم أحب العجائز.. ولكني أيضا أحب النساء اللاتي في سنك!".. يا لدهاء الكياسة. ولا أظن أن تلك السيدة إلا أنها نامت تلك الليلة أحلى نومة في عمرها الطويل.
ونحن مجتمع بدأت تقل فيه الكياسة. هل نحن مجتمع قليل الكياسة في الأصل؟ لا أظن. فأنت وأنا نعلم أننا من ألفاظنا المتداولة في الوصف لا نذكر بعض الصفات في معناها المباشر أو المجرد.. فيقال كريم عين، وناصح، وبه لطف، وفي عافية.. وهكذا.. ثم إن لغتنا في التحية إنما تكون محلا للتندر من غيرنا ومنا نحن، من كثرة تكرار جمل الترحيب وأسئلة الاطمئنان. ولكنا تغيرنا كثيرا، فتفتش حولك وتجد أن المجاملات بدأت تنحسر، أما الكياسة فلم تعد إلا أسطورة من الأساطير.
تمشي في الشارع، ويمر بك شخصان وأكثر وتسمع غثاء من اللعنات وفحش القول والسباب في حالة الصفاء والمزاح، ونفس الغثاء في سورات الغضب والنزاع.. ثم إنهم لا يجرون أي اعتبار لمن يصادف أن يسير بقربهم، أو أنهم يتجاوزونه، وهم في حمأة الحديث.. إذن الكياسة والذهب غابا، وغاب منهما حتى الحياء في المجاهرة بهما.
تقود السيارة، ويأتيك واحد من السائقين، وليس المهم أن تكون قد أخطأت سهوا، أو هو يخطئ عليك عمدا، فيخرج كامل جمجمته من نافذة عربته، ثم يكيل لك ألفاظا من أعمق قواميس سوء الأدب، وإذا هو لا يكفيه ذلك ويجتر مخاضا من أعمق معدته ويكومها في أوداجه ثم يطلقها من منجنيق فمه لعلها تصيب مقتلا في وجهك، ولكنها أصابت أو لم تصب، تكون قد أصابت شيئا مهما وهو الإحساس الشديد المرارة بالمهانة.. وحسرة متواصلة واشتياق مقيم لذاك الذي أخذ عصاه وقشته ورحل عنا بعيدا.. الذوق!
ثم إنك تفتح جهاز التلفزيون، وأنت مع أطفالك ومن يتمنون أن تبلعهم الأرض من أن يسمعوا كلمة نابية أو وصفا خارجا، فإذا الوقاحة والصفاقة تتعدى لغة الكلمات، وكأنها لا تكفي (مثل صاحبنا صاحب البصقة المنجنيقية).. فيُرمى المشاهدون بالحركات المتكسرة، والإيماءات الخليعة، والتملظات الحيوانية.. وبأصوات تـُخترع من كل حبال صوتية إلا حبال السماحة اللفظية، والتعفف الكلامي، ومراعاة حياء الناس. وتستغرب أن الغرب الكافر الخليع الذي ينشر الفساد وسوء المآل، يحذرونك في أفلامهم بأن هذه أفلام لا تصلح للأطفال، أو أنها لا تصح إلا لأطفال مع آبائهم، أو أنها لا تصلح للمراهقين، أو أنها قصر على البالغين الكبار. حتى هذه صارت رفاهية لا تقدم لنا.. نحن المجتمع الطيب المحافظ .. أحسن الناس أجمعين!
ثم إنك تذهب مع أهلك إلى المحلات التسوقية، وتجد أن أغلفة المجلات بها جمل مثل:"زوجي لم يضمني حميميا من شهور!" وعليك أن تفهم أنني صفيت العبارة وأدّبت الكلمات، وموّهت بالتعبير.. ومع ذلك فإن تلك الجملة بصورتها الخام كانت أخف وقعا من عشرات تتناثر حولها.. وهل أقول لك عن الصور؟! آسف.. كنا اتفقنا أن نقتصر على الجمل والحركات، لا الصور والبورتريهات. حاضر!
وتذهب إلى مرفق حكومي يقدم خدمات للناس، وتسمع الموظف يصرخ في الجمهور وعروق جبهته، ووريد رقبته تكاد تنفجر دما بركانيا، وهو يعلو بعقيرته:"صفوا، يا ... (صفة لقبيلة بشرية تمتهن التشرد) لسنا هنا لنخدم أهلكم!"، ويرد عليه بعض من الموجودين لا يفوقهم أدبا: بل أنت كذلك.. وأهلك!" يا سلام. فعلا تعطلت لغة الكلام. نعم هذا ليس كلاما إنما نهاق.. أو أنه أكثر، فالنهاق ليس كلمات!
وتهاتفك مندوبة تسويق تروج لك بضاعة، ولا تعلم من أين حصلت على هاتفك، فتدخل عليك بلا إحم ولا دستور.. (وتكتشف فيما بعد أنها أعطيت رقمك من معارف لك..همم!) ولما تعتذر لها بكل أدب الدنيا.. تضحك بجرة إيحائية، وتقول لك، طيب: أنت يعني من الناس الذين تحب أن "نزورك" في المكتب؟! أشـّر فقط. أشـّر فقط؟!! أين نحن يا ناس؟!
ولم تسلم من لغة تعطل الكلام حتى الطبقات الذين يحبون أن يعتبروا نفسهم "نـُخـُبا" – وسجلوا عندكم أني أجد هذه الكلمة فيها أطنان من قلة الذوق، يعني الناس قسمان، النخب، وماذا عن القسم الآخر.. الهمج؟!- فكاتب كبير يقول لكاتب كبير، "هذا القلم الذي تكتب به كان الأجدر أن يُكسّر على جمجمتك النتنة".. قولوا لي أين تجدون النتانة هنا؟ أترون؟ إذن..!
نحتاج إلى حملة تنظيف على مستوى كل الأمة.. تبدأ من مدارسنا ولا تنتهي عند صحفنا. ونحتاجها حالا..
وكياسة مني، فإني أعتذر لكم عما جاء في هذا المقال!