أشير إلى ما نشرته بعض الصحف المحلية منسوباً لفضيلة الدكتور محمد النجمي أستاذ القانون والشريعة في جامعة الأمير نايف وقد جاء بلفظ : "أنا ضد تحديد أيام أو معارض أو أسواق أو مراكز للنساء ... فهذا تنطع في الدين", كما جاء في ثنايا الخبر قول فضيلته: "إنني أتساءل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هل هناك أسواق خاصة للنساء وأخرى للرجال أو يوم للرجال ويوم للنساء؟، أبداً..." إلى أن قال: "فالصحابة رضوان الله عليهم والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن لديهم ما يوجب التوزيع والفصل والتحديد يوم للنساء ويوم للرجال..." إلى آخر ما ذكره فضيلته، الذي انتهى إلى وصف فصل الرجال عن النساء أنه تنطع في الدين ومخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقبل الشروع في مناقشة رأي فضيلته أؤكد أن فضيلة الشيخ النجيمي ممن عرفناهم بالعلم والفضل ونحبهم في الله ونقدر له جهوده في نشر العلم الشرعي والتعليم وليس ردي على فضيلته غضاً من قدره ولا تنقصاً لعلمه وفضله وإنما هو من باب أن نعرض آراءنا واجتهاداتنا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فما وافقهما أخذ به وما خالفهما تركناه, وأسعد الآراء بالدليل الشرعي هو أولاها بالقبول وأسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه.
ثم أعود للتعليق على كلام فضيلة الشيخ النجيمي فأقول :
أولاً : إن الثابت المعلوم في الشريعة الإسلامية حرصها على الستر ووقاية الأعراض وصيانة النساء خاصة من التعرض للتبذل والامتهان ومنعهن من أن يُفتَنَّ أو يَفتِنَّ, وقد سلكت الشريعة الإسلامية لتحقيق هذا المقصد العظيم مسالك كثيرة وشرعت لتحقيق ذلك أحكاماً لا تحصى ولا تعد ما بين ترغيب وترهيب وأمر ونهي فأمر الله الرجال والنساء بغض أبصارهم, وأمر النساء بالقرار في البيوت, ونهاهن عن تبرج الجاهلية الأولى, وحذر النبي صلى الله وسلم أمته من فتنة النساء وأخبرعليه السلام أنها أعظم الفتن, ففي الحديث : "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء", ولو أنني ذهبت أتتبع أحكام الشريعة الإسلامية والنصوص الواردة في هذا الباب لرأيت أني أحتاج إلى تأليف كتاب ضخم في ذلك, إلا أن الإشارة تغني الباحث عن الحق وهذا من ناحية العموم.
ثانياً: أما قول فضيلته إن مسألة التفريق بين الرجال والنساء لم ترد في الشرع وإنها تنطع في الدين ومخالفة لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقول: أليس من المعلوم لدى جميع المسلمين عالمهم وعاميهم أنه ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرق بين الرجال والنساء في المساجد أثناء تأدية الصلاة وأن صفوف النساء تأتي آخر المسجد؟ ثم لم يكتف عليه السلام بهذا التفريق بل أخبر أن شر صفوف الرجال آخرها لقربه من النساء وشر صفوف النساء أولها لقربه من الرجال, وما زال المسلمون إلى اليوم متمسكين بهذا التفريق الشرعي بفضل الله، أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل للنساء يوماً يجتمعن فيه فيأتيهن ويحدثهن، وذلك بعدما شكت إليه النساء فقلن يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، وهذا في طلب العلم الشرعي والدعوة إلى الله فلماذا لم يأمرهن عليه الصلاة والسلام أن يحضرن مع الرجال في المسجد ويستمعن أحاديثه كما يستمع الرجال مع أن ذلك طلب علم شرعي وفي المسجد والمعلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل نقول إن هذا تنطع في الدين؟! فإذا كان هذا التفريق قد حصل بأمر الله سبحانه وتعالى وفعل رسوله صلى الله عليه وسلم في أطهر البقاع وهي المساجد وفي أثناء عبادة من أعظم العبادات فهل ينتقد الشيخ النجيمي – وفقه الله – أن يتم هذا التفريق في شر البقاع وهي الأسواق التي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يرفع فيها رايته وأنها محل للهو والغفلة؟
ثالثاً: أنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من طريق أنه قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن", فإذا كان بيت المرأة خيراً لها حتى من المسجد فهل نقول دعوا الرجال يختلطون بالنساء وأن الفصل بينهم تنطع في الدين؟ ثم إنه ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها قالت: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل" أخرجه البخاري, وتعني رضي الله عنها لمنعهن الخروج للمساجد, قال ابن دقيق العيد رحمه الله حول هذا الحديث: هذا الحديث عام في النساء إلا أن الفقهاء خصوه بشروط منها: ألا تطيب وفي بعض الروايات: وليخرجن تفلات أي غير متطيبات, وروى مسلم رحمه الله من حديث زينب زوج ابن مسعود رضي الله عنهما: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس الطيب", وقال: ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيهن تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال. ا.هـ.
رابعاً: قول الشيخ النجيمي: إنه لا يوجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أسواق نسائية أو يوم خاص للنساء, فالجواب عن ذلك أنه ما دام تقرر لدينا الأحكام العامة والمقاصد العظيمة لها فإذن مسألة الأسواق النسائية تكون من وسائل تحقيق مقاصد الشريعة وهذا إن لم يكن حكمه معلوماً بالنصوص الشرعية الداعية إليه فلا أقل من أن يكون حكمها داخلاً في باب السياسة الشرعية لولي الأمر المسلم على رعيته, والشيخ النجيمي من الداعين إلى الاجتهاد في الأحكام ومراعاة ظروف العصر ونوازل الأحداث, فمسألة التشجيع على وجود أسواق نسائية أو مراكز طبية نسائية أو جعل أيام خاصة للنساء تعتبر من الأعمال الصالحة التي يدعو إليها كل مسلم غيور خشية الوقوع فيما لا تحمد عقباه, وخاصة رغبة بعض الشباب في التحلل من قيود الشرع التي جاءت لحفظ أخلاق الأمة المسلمة, ألا يعلم الشيخ النجيمي أن ما تقوم به هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهود تصل لدرجة الجهاد في سبيل منع الاعتداء على الأعراض والحد من ظاهرة التعدي على محارم المسلمين من قبل بعض المستهترين, أفلا نكون في ظل كل هذه المخاطر محتاجين حاجة ماسة إلى إيجاد أسواق نسائية في الأماكن العامة وذلك للتقليل من خطر هذه الفتنة العظيمة؟
وعمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: "يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" فما كان من الأمور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله لعدم وجود سببه. فلا ينكر على مجتهدي العلماء بعده أن يفتوا بما يوافق زمانهم إذا وجدت الأسباب الشرعية للتحريم أو الإيجاب", وهذه المسألة معلومة عند المسلمين عامة والمجتهدين منهم خاصة ولها أمثال فوق الحصر, أليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى كثرة وقوع الناس في الطلاق الثلاث بلفظ واحد أمر بأن يقع الطلاق ثلاثاً بينما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر يعد الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر طلقة واحدة؟! فهل هذا الفعل من عمر رضي الله عنه إلا فهم لمقاصد الشرع؟ فهل نرفض كل عمل صالح دعت إليه الأسباب الشرعية بحجة أنه لم يوجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمنا بأن الداعي لم يكن موجوداً إليه؟
إن من يرى أحوال بعض الشباب المستهتر اليوم وكيف أنهم يتفلتون على النساء تفلتاً ويضايقونهن في الطرقات ويعتدون على حرياتهن ليعلم أن من أوجب الواجبات الشرعية السعي إلى منع اختلاط الرجال بالنساء حفظاً لما تبقى من أخلاقنا, وإني أسأل الشيخ النجيمي: هل وجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما يحدث اليوم من هذه الحوادث المزعجة ومضايقة الشباب للنساء ومطاردتهم لهن في الشوارع؟ وما حادثة طريق النهضة عنا ببعيد يا فضيلة الشيخ!.
وإنني أنبه هنا إلى ملاحظة مهمة في فهم هذه المسألة وهي أن الاختلاط بين الرجال والنساء نوعان : اختلاط في أماكن عامة مفتوحة كالشوارع والأسواق التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الاختلاط أمره أهون وضرره أقل, واختلاط في أماكن عامة لكنها محدودة بأسوار أو جدران مثل الصالات المغلقة والأسواق الموجودة اليوم فهذه الأماكن تأخذ حكماً مختلفاً من وجهين: الأول: أنها تكون محصورة وليست متسعة دون حدود, الثاني: أنها تكون أكثر زحاماً خاصة في زماننا الذي زادت فيه كثافة الناس حتى صار الكتف يضرب الكتف والقدم تطأ القدم, وهذه الأماكن هي التي يزيد شر الاختلاط فيها عن غيرها.
خامساً: ألا يعلم الشيخ – وفقه الله – أن اختلاط الرجال بالنساء في زماننا يختلف عن الاختلاط في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه أهمها:-
أ ) هل الرجال والنساء في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخلاق وديانة أهل زماننا؟
ب) هل النساء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يرتكبن ما ترتكبه نساء هذا اليوم من التبرج والتجمل والتعطر والتفنن في إظهار المحاسن وأجزاء الجسم بينما نساء الصحابة رضي الله عنهن يخرجن تفلات لا زينة فيهن فأين الشيخ النجيمي من روائح العطور الجذابة, ونظرات العيون المغوية, والتغنج في المشي والتفنن في الإغراء؟
ج ) هل كان خروج المرأة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في الكثرة مثل خروج النساء في أيامنا حيث يخرجن لحاجة ولغير حاجة وبأعداد تفوق أحياناً عدد الرجال؟
وبناءً على كل ما سبق, ومع إقراري بالتقصير في استيفاء مناقشة هذا الموضوع لقصور علمي عن إدراك غايته وخشية التطويل, إلا أنني أرجو أن أكون ساهمت في إيضاح شيء من الحق وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لطاعته ويجنبنا محارمه وأن يحفظ عوراتنا وأخلاقنا, آمين والسلام.
محمد الجدلان
القاضي في ديوان المظالم في الرياض