ثقافة وفنون

يحيى الساعاتي.. الصوفي المنعزل في محراب الكتب ومنقذ الكتاب الورقي من الزوال

يحيى الساعاتي.. الصوفي المنعزل في محراب الكتب ومنقذ الكتاب الورقي من الزوال

هو عميد المكتبيين بلا منازع, ومؤسس حقيقي لأكبر مكتبة في البلاد, سار طويلا في ميادين الكتب, نفض الغبار عنها, التهم حروفها وسبر أغوارها, أتعب أرفف المكتبات, واشتكت منه تصانيف الكتب وأرقامها وأوعيتها ومراجعها وإيداعاتها. أذهل الغربيين الذين قابلهم وقابلوه, قبل أن يذهل أبناء جلدته بصبره وجلده وسعة أفقه واطلاعه وبحثه دون ملل أو كلل عن الوثائق والمحفوظات والملفات والأضابير والمخطوطات النادرة والمسكوكات وغيرها مما يدخل في أعمال التراث مما أعاد إلى الأذهان عصر الموسوعيين الكبار, كان زاهدا في كل شيء إلا مع الكتب, يسافر إليها وتسافر إليه, عندما يجدها يحتضنها برفق ويخلع نظارته السميكة ويلتهمها حرفا حرفا, ثم يحملها برفق ويضعها في أرففها ويفتحها لمن يقرأ أو من يرغب في ملامستها. نزهته المفضلة غابة من الكتب يقطف أوراقها وينتزع حروفها وينثرها في قاعات المطالعة ليطرد عنها السكون ويجذب الرواد لالتقاطها. في مكة المكرمة حيث أنشأ أحد أبنائها وهو عبد الحكم بن عمرو الجحمي مكتبة عامة هي الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام قبل 1400 عام, ولد يحيى محمود بن جنيد الساعاتي منذ 60 عاما, وكان ذلك بمثابة إعلان لقدوم عالم سيكون له إسهامات فكرية لافتة يعيد معها عصر الموسوعيين العظام, وبالفعل عمل الساعاتي على مدى أكثر من ربع قرن على العناية بالتراث العربي والإسلامي متقصيا عددا من الظواهر الثقافية مثل نقص المعلومات عن الكتاب العربي والحياة العلمية في القرون الماضية وكيف ورث العالم الإسلامي الأمية, كما استأثر تاريخ المكتبيين والمكتبات في العالم الإسلامي وكذلك تاريخ الطباعة العربية في البلدان غير العربية باهتمام محلوظ منه يمكن تتبعه في القائمة الببليوجرافيا الطويلة لأعماله, كما أن جهوده في موضوع الوقف في الحياة الفكرية الإسلامية تعد عملا رائدا طالما أحجم المؤرخون عن خوض غماره. أنجز الساعاتي عملا فكريا ضخما عن الببليوجرافيا الوطنية تجاوز عشرة مجلدات, كما أنه أول من أسس مركزا خاصا للمعلومات عن المملكة, وسجل حضورا لافتا في صياغة نظام حقوق المؤلف وتطبيق نظام الإيداع والترقيم الدولي للمطبوعات, ويسجل له أنه أنشأ قبل ربع قرن أول مجلة تهتم بعالم الكتب والمخطوطات وهي مجلة "عالم الكتب". أسهم الساعاتي في الحفاظ على الكتاب مصدرا للمعلومات وكيانا معرفيا نابضا له مذاقه الخاص ولونه وشكله ورائحته, وكأنه بذلك يدحض النظرية المعلوماتية الحديثة للمكتبة الافتراضية أو المكتبة الإلكترونية التي تتوقع زوال الكتاب الورقي والاعتماد على تقنية المعلومات وشبكات الاتصال للوصول إلى المعلومات والمعرفة ثم الحكمة التي هي خلاصة التجربة القرائية التي يستهدفها المكتبيون. خمس محطات مهمة في حياة يحيى الساعاتي هي مكة, الطائف, الرياض, أمريكا, ومصر, ففي الأولى ولد وفي الثانية درس مراحل التعليم الثلاث, وفي الرياض درس الجامعة وحصل عام 1389هـ على بكالوريوس آداب من كلية الآداب في جامعة الملك سعود ومعها بدأ حياته العملية مع المكتبات والكتب أمينا لمكتبة في الجامعة ثم رئيسا لقسم المخطوطات فيها, وأستاذا مساعدا ورئيسا لقسم المكتبات والمعلومات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, كما عمل في العاصمة مستشارا لمكتبة الملك فهد والمشرف على مرحلة التشغيل, ثم أمينا لمكتبة الملك فهد الوطنية من عام 1410هـ وحتى منتصف عام 1416هـ, وأستاذا في قسم المكتبات والمعلومات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ورئيس تحرير مجلة "عالم الكتب" منذ تأسيسها في عام 1400, وفي أمريكا حصل على ماجستير آداب في المكتبات والمعلومات من جامعة ميسوري عام 1976, وفي مصر حصل على دكتوراه المكتبات من كلية الآداب في جامعة القاهرة. ومثلما حفلت سيرته بإسهامات فاعلة في تشييد بيوتات الثقافة ومنارات العلم واهتمام في تطوير المكتبات ورسالتها الثقافية والعلمية والتعليمية وبكثرة مؤلفاته وأعماله التي ضمتها القائمة الببليوجرافيا الطويلة لهذه الأعمال, حفلت حياته العملية بالكثير من المناصب والمهام منها عضو مجلس الشورى, وأمين عام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ورئيس تحرير "عالم الكتب" ورئيس تحرير "عالم المخطوطات والنوادر", رئيس تحرير "الفيصل", عضو هيئة تحرير "الدارة والعقيق", ومجلة "الدرعية" ومجلة "جذور" وعضو المجلس العلمي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, وعضو اللجنة العامة للمعلومات الطبية والصحية في وزارة الصحة, عضو اللجنة العلمية في مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض, عضو مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية, وقبلها عمل عضوا في مجلس إدارة النادي الأدبي في الرياض, وفي اللجنة الاستشارية في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون, ورئيس تحرير مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية, وعضو هيئة تحرير حوليات المكتبات والمعلومات الصادرة عن كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام, وعضو هيئة تحرير مجلة "التوباد", كما عمل في التدريس متعاونا في معهد الإدارة العامة وكلية الملك فهد الأمنية وجامعة الملك سعود وكلية الآداب للبنات طوال عقدين. حصل الساعاتي عام 1418هـ على جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية في مجال المكتبات وصناعة الكتاب عند المسلمين, ومنحت له الجائزة مناصفة بينه وبين الأستاذ الدكتور عبد الستار الحلوجي ولعلها مصادفة أن يمنح الاثنان جائزة هذا الفرع إذا علمنا أن الحلوجي أشرف على رسالة الدكتوراه للساعاتي ما يعني تفردهما في موضوع الجائزة واستحقاقهما لأن يكونا من القلة المحدودين في العالم العربي الذين برزوا في علوم المكتبات والمعلومات والتوثيق. ومن الصعوبة الإحاطة بكل أعمال الدكتورالساعاتي فذلك يحتاج إلى مساحات كبيرة سواء أكانت مؤلفاته أو مقالاته أو دراساته أو رسائل الدكتوراه والماجستير التي أشرف عليها ولامست المائة لكننا نختتم هذه السيرة المختصرة لعلم من أعلام علوم المكتبات والمعلومات والتوثيق في العالم العربي بجزء مما كتبه عنه علامة الجزيرة الشيخ الراحل حمد الجاسر بقوله "لم يكن الدكتور يحيى ممن يعيش في تلك الأجواء في المجتمعات التي تسلط عليها الأضواء من جميع النواحي, ولا ممن يختلط ككثير من أبناء زمنه من المثقفين بمختلف طبقاتهم, ولا ممن يحاول أن يوجد له مكان بينهم, مهما بذل في سبيل من وسائل, إنه ليس من هؤلاء ولا من أولئك, إن الرجل يعيش عيشة غريبة, فيحيا عزلة وانفرادا وبعدا عن ضوء الحياة العامة, يذكر بالصوفي المنعزل في محرابه, أو الفيلسوف العاكف في انفراده على دراساته ولكنه مع ذلك يعيش لمجتمعه ويحيا حياة كلها جد ودأب ونشاط في البحث, واتجاه للاستزادة من العلم, وإفادة متجددة متواصلة مع غزارة إنتاج نافع, ومواصلة توجيه طلاب أدرك فيهم من الرغبة والحرص على التوجه لنيل المعرفة, ما حببهم إليه وحببه إليهم حتى أثمرت تلك الحياة الجادة المنعزلة عما يحيط بها مما لا يتصل بما ينفع ويفيد أطيب الثمار".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون