حسين سرحان.. البدوي الذي اغتالته المدن فاعتزل الحياة والناس وأحرق شعره ونثره ثم رحل!

حسين سرحان.. البدوي الذي اغتالته المدن فاعتزل الحياة والناس وأحرق شعره ونثره ثم رحل!

حسين سرحان.. البدوي الذي اغتالته المدن فاعتزل الحياة والناس وأحرق شعره ونثره ثم رحل!

من شعره ونثره تنهمر دموع الذكرى والحزن الذي ينشج نشيجا سوداويا موحشا مثل ما كان يطبع شعر ابن الرومي، وفي عزلته للناس وصراحته صورة مماثلة لحياة شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء رهين المحبسين" المعري"، الموت كان هاجسه وأمنيته يستعجل قدومه، بعد أن وجد نفسه ضعيفا متهالكا أمام صرامة الحياة وصعوبة التأقلم مع أجوائها ومخالطة السائرين في ركبها حيث السواد الأعظم من الجبناء والمنافقين والمتزلفين وطالبي الشهرة أو الدعة أو السكينة، ونفر آخر من الناس ينظر إلى الكون والحياة نظرة عابرة يمر على الأشياء دون عناء، انتظر الموت ولما لم يجده آثر العزلة والانطواء، وحمل شعره وآثاره الأولى إلى المحرقة ليريح نفسه والناس من شرها! عاش حياة قاسية أثرت في شخصيته من فقر ومرض وفقد ثلاثة من فلذات كبده في سنوات متباعدة، وذات يوم من عام 1994 التقى الموت الذي كان يتمناه ويبحث عنه ليغيبه وتطوى معه آخر صفحة من صفحات حياة أحد رواد الأدب السعودي الحديث، وشاعر سجل حضورا لافتا في مجال الشعر حتى أصبح رائدا من رواد تجديده، ونثر خلال أكثر من نصف قرن قصائده ومقالاته عبر رحلة صراع مع النفس والحياة والناس، لكنه ظل متصفا بحس مرهف وشعور رقيق، وحمل قلبا اتسم بالعاطفة المتوقدة والحب ودخل به صراعا مع نفس ملومة، كثيرة السأم متشائمة، سيئة الظن بالناس، ساخرة بالحياة ومن فيها.
حسين بن علي بن صويلح بن سرحان، هذا البدوي العتيبي القادم من هجرة الروسان "مصده" شمال الدوادمي، ولد في مكة المكرمة قبل 94 عاما، من يومنا هذا بعد أن استقر والده هناك عندما أوكل إليه الملك عبد العزيز مراقبة بيع المواشي، وكان يحسب رأيه في تقدير أثمانها وأنواعها.
عمل الابن حسين في بداية حياته في رعي الأغنام وبيعها وشرائها، ثم أدخله والده في كتاب الشيخ عوض الحضرمي عام 1347هـ، مبتدئا حياته مع الدرس والتعليم ليصبح بعد سنوات واحدا من أكثر قراء الكتب وأعجب من يؤدي طقوسا في ممرساته للكتابة لدرجة أن علامة الجزيرة حمد الجاسر قال عنه: "إنه واسع الاطلاع بدرجة عجيبة، بحيث لو وصف بأنه في خلال الثلث الماضي من هذا القرن قل أن يصدر كتاب في الأدب أو التاريخ أو في الشعر أو القصة لم يطالعه".
واصل سرحان دراسته في عدد من الكتاتيب وفي المسجد الحرام، حيث درس فنونا من التفسير وشروحا لبعض الأحاديث النبوية وأقساما في الفرائض والفقه، وشيئا من علوم العربية، ثم التحق بمدرسة الفلاح عام 1348هـ، حيث تعلم فيها الفقه بفروعه الأربعة والصرف والتاريخ، لكن ولعه بالقراءة الخارجية جعله يترك المدرسة دون أن يحصل على الشهادة الابتدائية، وفي عام 1362هـ بدأ بممارسة العمل الوظيفي تلك المهمة التي لم يكن راغبا فيها لذاتها، والتي ابن نفسه على قبولها لأول مرة، يحث يعتبر الوظيفة قيد وطوق حديدي، حيث عمل بداية في فرع مصلحة اللوازم العامة في الطائف، ثم في مصلحة اللوازم العامة في مكة، ثم انتقل للعمل سكرتيرا في الإدارة العامة في وزارة المالية، كما عمل في إدارة شؤون الحج وسكرتيرا للجنة التنفيذية لتوسعة الحرم المكي، كما عمل في مطبعة الحكومة في مكة ورئيسا لتحريرها ليأوي بعدها إلى الراحة ويستقيل، واحترف خلال هذه الرحلة الصحافة شاعرا وناثرا ومحررا.
عدّ حسين سرحان من الكتاب الذاتيين، ووصفه النقاد بأنه ناثر من طراز خاص، استقل بشخصية كتابية متميزة، قلد المازني في سخريته وفي الحديث عن نفسه، وفي بعض أسلوبه، ثم انفرد بطريقة في الكتابة غير متبعة عند غيره من الكتاب السعوديين، إذ يعمد إلى إحياء كثير من اللفظ الأصيل في غير تقعر ولا إغراب، ويطيل في اتباع التوازن الموسيقي للفقرات، فلا تذهب في قراءته بعيدا حتى تعود إلى الإيقاع نفسه، مما يضفي على النص جمالا فنيا خاصا، فهو بذلك يجمع بين متانة العبارة وأصالتها وحسن سبلها إلى الخفة والرشاقة والسماحة, ولطافة الفكاهة التي ما تنفك تشيع في ثنايا أكثر مقالاته.
ومثلما كان السرحان ناثرا من طراز خاص، فهو أيضا شاعر وجداني تمتلئ قصائده بالمعاني، وسيطر الموت على أجزاء كبيرة من شعره وتمثل ذلك في قصيدته تداعى الجسم:
تداعى الجسم وانحلّت قواه
وضاق اليوم من عُمري مداه

كأني سوف أبصر عن قريب
يداً للموت، لا شلت يداهُ

كما ألمح في أبيات من شعره إلى أنه يائس محبط من كل شيء:

ارثني ارثني فسوف ألاقي
لذة الوصل بعد طول الفراق

إن عيشا على نفاق وجبن
لهو الموت تحت سبع طباق

ولا بد من الإشارة إلى أن شاعرنا عاش حياة قاسية أثرت في شخصيته ابتداء من الفقر والأمراض التي لازمته وأوصلته إلى تركها بلا علاج وأصبح ينظر إليها بسخرية، وهي تنخز جسمه مما جعله يكثر من التأمل والنظر في حال الحياة والأحياء والاستخفاف بهذه الحياة الدنيا الحقيرة التي لا تساوي شيئا في نظره.
إن التجمل لي شيمة فطرت نفسي
عليها ونالت أوجها العالي

أعيش بالآل ترويني خوادعه
إن ظن غيب بوبل منه هطال

وجاءت فجيعة شاعرنا بوفاة ثلاثة من فلذات كبده لتقضي على كل ما تبقى في نفسه الأبية وتبدأ معها صراعات أخرى بين واقعه الذي قبضت عليه أيدي الفقر والمرض وبين مثله وقيمه وحبه لفلذات كبده الذين اختطفتهم أيدي المنون ابتداء من ابنته البكر التي لم تعش طويلا، ثم ابنته مزنة التي رحلت عن الدنيا بعد أن عاشت عشرين ربيعا، ثم ابنه محمد وحيده من الذكور الذي غادر الدنيا قبل 40 عاما، ولعل رثاءه لابنته مزنة بعدد من القصائد يعبر عن حجم فجيعته .. التي لا تحد بوصف.

أراكِ، أراك في نومي وصحوي
وفي بعدٍ وفي قربٍ قريبِ

أراكِ على النمارق والحشايا
أراك عليَّ آخذة دروبي

وإذا كان الشاعر عرف عنه نظمه للشعر الفصيح فإنه قد أجاد نظم الشعبي النبطي وحفظ الكثير منه بل كتب عن شعراء النبط كابن لعبون، ولعل من أبرز أشعاره النبطية قصيدته التي يقول فيها:
يا بوفهد رحنا وباكر تروحون
يا شين فرقا الناس بعد اجتماع

من بعد ما كنا وكنتم تدوجون
حول البعض بين النظر والسماع

متخالطين.. يشهد الكاف والنون
الظل واحد والمحبة شراع

ليا حال حول بين ظاعن ومظعون
متى يعود الوصل بعد انقطاع؟

كما أنشد في قصيدة أخرى قوله

اليا شتمني واحد قلت مسموح
راسك طويل وراسي اليوم ما طال

ما عاد به ربع يسلون بمزوح
كل يميل مع الهوا حيث ما مال

ولا عاد لي في باقي العمر مصلوح
صيور ما القلب تبديه الأمثال

الأكثر قراءة