جاءت موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في السادس من كانون الثاني (يناير) الماضي على بدء توسعة الساحات الشمالية بعمق 380 متراً وإقامة أنفاق للمشاة والمحطات لتسطر له بخطوط من ذهب منجزا تاريخيا يضاف إلى عهد ولايته للحكم في السعودية، وهو الأمر الذي سيحفظ العالم الإسلامي له أكبر مكانة وتقدير.
وقضت الموافقة الملكية على البدء في نزع ملكيات ألف عقار موجودة في المنطقتين الشمالية والشمالية الغربية للحرم بمساحة 300 ألف متر مسطح تقريبا وبتكلفة إجمالية قدرت بنحو 25 مليار ريال حيث إن اللجان المكلفة بتقدير العقارات ونزع الملكيات ما زالت تواصل أعمالها من جهة، بينما الفرق الفنية المكلفة بالتنفيذ تنجز أعمالها للانتهاء من المشروع في الوقت المخطط له، وذلك بتزامن عمليات فصل وسحب الخدمات مع عمليات الإزالة على هيئة شرائح.
وتبدأ التوسعة من حدود الجهة الشمالية القائمة حاليا للمسجد الحرام، لتضم أجزاء من الأحياء والمناطق القديمة المحاذية للحرم المكي الشريف من جهته الشمالية كأجزاء من أحياء المدعى والشامية والقرارة، وكذلك المواقع الممتدة من المدعى في الشمال الشرقي للمسجد الحرام حتى الشامية وحارة الباب إلى الشمال الغربي منه.
ويباشر العمل على مشروع التوسعة ثلاث لجان فنية وإدارية تشكلت لمتابعة سير أعمال تنفيذ المشروع الذي يتوقع أن يكون على أعلى مستوى خاصة أنها تنفذ في منطقة لم تشهد سابقا أي توسعة بالرغم من أنها من أقرب الأماكن للمسجد الحرام وتضم مساكن عدة للمعتمرين والحجاج، وسيستوعب المشروع نحو نصف مليون مصل بعد اكتماله بعد إزالة نحو ألف عقار تبدأ من شارع المسجد الحرام المعروف بشارع غزة شرقا وتتجه على شكل هلال حتى شارع خالد بن الوليد غربا بالشبيكة ويشمل المشروع شوارع المدعى وأبي سفيان والراقوبة وعبد الله بن الزبير في الشامية وجزءا من جبل هندي إلى شارع خالد بن الوليد ومنه إلى شارع جبل الكعبة بما يقابل مقابر الشبيكة. يذكر أن منطقة الشامية التي تشهد التوسعة من المواقع الموقوف البناء فيها منذ 18 عاما.
وجاءت الموافقة على التوسعة في وقت بلغت الحاجة إليها أكبر ما تبلغ مع الازدياد المضطرد في أعداد الملايين من حجاج ومعتمرين ومصلين وطائفيين غصت وفاضت بهم جنبات الحرم الشريف في المناسبات الدينية على مدار العام، كما أنها تأتي إضافة إلى توسعة المسعى التي ستخفف من الزحام خلال أداء السعي، وستحمي في الوقت نفسه حرمة المسجد الحرام من الهجمة العمرانية التي أحاطت به من جهاته الأخرى الشرقية والجنوبية والجنوبية الغربية من خلال إنشاء البنايات العالية المتاخمة، التي تزاحم الحرم الشريف وتمنع رؤيته من على بعد، و ترتفع على مآذنه، بل قد تعيق حركة النسيم الذي يسرح في أرجائه، وهي تمنع أية توسعات قد تصبح ضرورية مستقبلاً.
وستسهم المشاريع الجديدة التي بدأت في العاصمة المقدسة ومنها توسعة الساحات الشمالية الغربية للحرم وطريق الملك عبد الله الموازي والطريق الدائري الأوسط الثالث بشكل إيجابي كبير وفعال في خدمة قاصدي بيت الله الحرام وتسهل تحركاتهم من وإلى المسجد الحرام ، حيث إن من الملاحظ في الأعوام السابقة من موسم الحج والعمرة وشهر رمضان الكريم وجود اختناقات مرورية على الشوارع المؤدية للحرم، وهو الأمر الذي سيعالجه مشروع التوسعة، وذلك لأنه سيعمل على توسعة الطرق و عزل المركبات عن الساحات، وإن إزالة أكثر من ألف عقار لصالح مشروع تطوير ساحات المسجد الحرام يهدف إلى زيادة الطاقة الاستيعابية للساحات المحيطة بالحرم وتذويب التكدس العمراني الهائل الموجود حول منطقة الحرم الملكي خصوصا في الجهات الشمالية والغربية وكذلك في الجهة الشمالية الشرقية، ويهدف المشروع أيضا إلى تفريغ المناطق المحيطة بالمسجد الحرام لتسهيل حركة المصلين ورواد بيت الله الحرام من حجاج ومعتمرين وزوار وإعطاء راحة وطمأنينة أكثر للمصلين إضافة إلى تحسين وتجميل منظر شكل البيئة العمرانية بالشكل الذي يواكب التطور العمراني في هذا العصر مع الأخذ في الاعتبار روحانية وقدسية المكان، وسيتضمن المشروع هيكلة إنشاء شبكة طرق حديثة مخصصة لمركبات النقل منفصلة تماماً عن ممرات المشاة وأخرى أنفاق داخلية مخصصة فقط للمشاة مزودة بسلالم كهربائية، وتتوافر فيها كافة معايير الأمن والسلامة وسط منظومة متكاملة من الخدمات تساعد على سهولة الحركة والانتقال من وإلى الساحات الشمالية والغربية وبعيدا أيضا عن الحركة المرورية، إضافة إلى أن المشروع سيوفر مصليات جديدة واسعة الأفق لزوار بيت الله الحرام لأداء الصلاة فيها ويسهم ذلك في حل الازدحام في أوقات الصلاة خاصة خلال موسم الحج والعمرة وكذلك شهر رمضان المبارك، كما أن بعض المشاريع التي بدأت الشركات والمؤسسات المنفذة في تنفيذها أخيرا في مكة وهي أيضا تصب لصالح مشاريع الحرم المكي الشريف التطويرية مثل مشروع طريق الملك عبد العزيز الذي يمتد من سفح جبل عمر إلى الطريق الدائري الثالث ويلتقي بالمدخل الغربي لمكة المكرمة مرورا ببعض أحياء شارع المنصور وشارع أم القرى ويلتقي بشارع عبد الله عريف بالستين، وكذلك من هذه المشاريع الخدمية التي تخدم قاصدي بيت الله الحرام مشروع الطريق الدائري الأوسط الثالث الذي يمر بعدد من الأحياء السكنية في العاصمة المقدسة ويربط القادمين إلى بيت الله الحرام عن طريق مكة - جدة السريع بطريق المدينة المنورة مكة والعكس ليخدم المتجهين لبيت الله الحرام و المشاعر المقدسة.
ودفع قرار التوسعة بالمناطق العشوائية القريبة من الحرم والمخططات السكنية الحديثة في العاصمة المقدسة لتسجل ارتفاعا في أسعارها بنسبة وصلت إلى 100 في المائة مسجلة انتعاشا كبيرا للسوق العقارية في مكة، إضافة إلى أن المنطقة المركزية تشهد حاليا مشاريع تطوير ستحدث نقلة تخطيطية وتنظيمية كبيرة في منطقة ما حول الحرم المكي الشريف وتوفر السكن الآمن للحجاج والمعتمرين وتقضي على الاختناقات المرورية، وستشهد المخططات على أطراف مكة انتعاشا ملحوظا خلال الفترة المقبلة، إذ إن من المنتظر أن تشهد المنطقة المركزية عملية تثمين أخرى جديدة تعد الأكبر لمشروع الشامية ومشروع إعمار أجياد ومشروع طريق الملك عبد العزيز ومشروع الهجرة ومشروع أجياد المصافي وشعب عامر وهي شركات تحت التأسيس.
كما أن تقريرا لشركة مزايا ذكر في وقت سابق أن مدينة مكة المكرمة ومحيطها تشهد في الوقت الحالي نمواً عقارياً كبيراً عبر مشاريع مختلفة تشيد حول المسجد الحرام وفي المنطقة المركزية، وحسب التقديرات الأخيرة فإن حجم الاستثمار في مكة المكرمة ارتفع إلى 750 مليار ريال، وهو رقم مرشح للارتفاع بازدياد حجم الأعمال والاستثمارات التي يعلن عنها بين الحين والآخر والتي تطرح بشكل دوري ولا تتأثر بمواسم العقار، وأشار التقرير إلى أن كثيرا من العقاريين في السعودية يؤكدون أن مكة المكرمة من أفضل المدن السعودية في التداول العقاري طوال السنة، ولاحظ التقرير إقبالاً كبيراً من المسلمين غير السعوديين عامة ومن الدول الغربية بشكل خاص على شراء العقارات في مكة المكرمة، بعد أن سمحت السعودية لأول مرة للأجانب بتملك الشقق لمدة 25عاماً قابلة للتجديد، مبيناً أنه خلال الفترة الماضية تم طرح عدد من المشاريع العقارية في مكة منها جبل خندمة الواقع على الناحية الشرقية من الحرم المكي الشريف، ومشروع جبل عمر، إضافة إلى مشروع الشامية الذي يعتبر أكبر المشاريع العقارية والإنشائية الذي يقع شمال الحرم المكي الشريف.
وتعد التوسعة الجديدة التي وافق خادم الحرمين الشريفين على تنفيذها، امتدادا للأعمال الكبيرة التي خطتها السعودية لصالح الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والتي تشمل أعمال التوسعة والأعمار، والتي بدأت منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، ومن بعده أبناؤه الملوك حتى العهد الحالي.
ففي عام 1925 أعلن الملك عبد العزيز بعد ضمه الحجاز البدء في عملية كبرى لإعادة ترميم المسجد الحرام، وبعدها بعامين، أصدر أمره بعمل مظلات ثابتة في صحن المطاف لتقي الحجاج والزوار والمعتمرين حر الشمس، كذلك قامت الدولة السعودية في هذا العهد بتبليط المسعى، كما تم إنشاء أعمدة رخامية جديدة من قطع المرمر الصقيل في ردهات المسجد الحرام لتعلق عليها الإضاءة الكبيرة. وفي عام 1945 أمر الملك عبد العزيز بتجديد سقف المسعى.
أما أكبر توسعة شهدها المسجد الحرام في العصر الحديث فكانت في عهد الملك سعود، "والتي تعرف بالتوسعة الأولى"، حيث وضع الملك الراحل في عام 1955 حجر الأساس لهذه التوسعة، والتي تمت خلالها عمارة المسجد الحرام على أسس حديثة مع الحفاظ على الطابع العثماني في صحن المطاف وتوسعته، وبناء المسعى الذي أصبح بطابقين، مع المسعى عن حركة المشاة، وتضمنت أعمال هذه التوسعة الكبرى شق وإنشاء طرق وميادين حول الحرم، وقد أصبحت مساحة المسجد الحرام بعد إضافة توسعة الملك سعود التي استمرت طوال عهده ثم عهد الملك فيصل إلى نحو 161 ألفا و168 مترا مربعا، لتتسع إلى أكثر من 300 ألف مصل، كذلك تواصلت العناية بالمسجد الحرام في عهد الملك فيصل، حيث كان من أهم ما نفذ من مشاريع، خمسة ميادين عامة حول الحرم، وزيادة أبواب المسجد إلى 64 باباً مختلفة الأحجام، وإنارة المسجد بوسائل فنية حديثة، وإنشاء مكتبة المسجد الحرام، كما أزيلت المقصورة التي كانت مقامة على مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أجل التوسعة على الطائفين، وأبدلت بغطاء من الكريستال الفاخر، واحتفل بذلك برعاية الملك فيصل في عام 1968.
كذلك أصدر الملك خالد بن عبد العزيز أمرا في عام 1977، بوضع باب جديد للكعبة من الذهب الخالص.
أما في عام 1989، فقد وضع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز يرحمه الله حجر الأساس للتوسعة السعودية الثانية للمسجد الحرام، والتي تعد أضخم عملية إعادة توسعة وعمارة يشهدها الحرم المكي طوال تاريخه، حيث تم ضم منطقة السوق الصغير، وتم ربطه بالتوسعة السعودية الأولى بمدخل واسع يسهل الحركة بينهما، كما تم عمل نظام تبريد، حيث أنشئت محطة تكييف المسجد الحرام بمنطقة أجياد وتم ربطها بالمسجد الحرام عبر أنفاق تحت الأرض، وبلغت مساحة أدوار المبنى الجديد نحو 76 ألف متر ليتسع وحده لأكثر من 152 ألف مصل، كما شمل المشروع تجهيز الساحات الخارجية التي تبلغ مساحتها 85 ألف متر مربع لتستوعب قرابة 200 ألف مصل، لتصبح مساحة المسجد الحرام بعد إضافة مبنى التوسعة الحالية والأسطح وكامل المساحات المحيطة به إلى نحو 356 ألف متر مربع تتسع لأكثر من 775 ألف مصل في غير أوقات الذروة، والتي تصل إلى مليون و250 ألف مصل، فيما بلغت تكلفة التوسعة التي تشمل المباني ومشاريع الخدمات وتعويض نزع الملكيات إلى أكثر من 55 مليار ريال. وبعد إضافة هذه التوسعة الجديدة التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، سترتفع الطاقة الاستيعابية للمسجد الحرام ومساحاته إلى مليوني مصل في غير أوقات الذروة.
وكان الملتقى العلمي السادس لأبحاث الحج الذي نظمه معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج بجامعة أم القرى في عام 2005، قد ناقش دراسة علمية تقدم بها الدكتور محمد عبد الله إدريس والمهندس عبد الله محمد فودة الباحثان بقسم البحوث العمرانية والهندسية في المعهد بعنوان "دراسة عمرانية لتطوير الساحات الشمالية للمسجد الحرام"، أوضحا فيها أن الساحات المحيطة بالمسجد الحرام تمثل عنصر الربط بينه وبين الطرق والممرات في المنطقة المركزية، وتؤدي دوراً مهماً وكبيراً في تخفيف الضغط عن المسجد الحرام باستيعابها أعــدادا كبيرة من المصلين، كما تساعد في عملية التحكم والسيطرة على الحشود البشرية.
وبينت الدراسة أنه على الرغم من ضخامة المشاريع الموجودة في الجهة الشمالية من المسجد الحرام إلا أن الساحة الشمالية هي الأصغر من حيث المساحة، وقد تكون الظروف الطبوغرافية هي السبب في ذلك حيث ترتفع المنطقة عن أرض المسجد الحرام من 10 أمتار إلى 40 مترا.
وأكدا أن الدراسة تهدف إلى تطوير الساحة الشمالية للمسجد الحرام بما يحقق الاستفادة منها مع المحافظة على البيئة الطبيعية للمنطقة ومراعاة الظروف الاقتصادية والحركية أخذاً في الاعتبار العوامل المختلفة المؤثرة في عملية التطوير وذلك من خلال التعرف على الوضع الراهن للمنطقة والمتمثل في الظروف الطبوغرافية ونمط النسيج العمراني القائم ومنظومة الحركة للمشاة والمركبات والتوسعات المستقبلية للمسجد الحرام ومشاريع التطوير المستقبلية للمنطقة الشمالية وذلك للوصول إلى تصور مناسب لحدود الساحات الشمالية للمسجد الحرام.