حدثني أحد الإخوة عن ظاهرة تشدق بعض الأكاديميين لدينا بالتنظير في الإدارة إلى أن يصل إلى منصب حكومي رفيع. بعد تحقيق الهدف يكتشف سريعا تطابق المصلحة الشخصية في الحفاظ على المركزية الإدارية وسهولة التمكن من خلال الحد الأدنى من المساءلة. أصبح هذا التناقض هو السمة الرئيسة في حياتنا الإدارية. تشكل النماذج الإدارية وتصبح كيانات حية تدافع عن نفسها، بل تستعمل كل أنواع التطعيم والتحصين من أجل البقاء. تجدها تتكيف حسب الحالة الاجتماعية والسياسية. ففي حالة معينة تجد أن السرية والتكتم هي السلاح الأنسب، وفي فترة أخرى تجد أن الدعوة إلى الشفافية هي العملة الدارجة. فهذه النظم الإدارية تستطيع التكيف مع التناقضات. يبقى مستوى الإنتاجية مكانك سر سواء في ظل الرغبة الجامحة لحماية الوطن بالسرية أو بحماية الوطن بالشفافية. غياب الإنتاجية وارتفاع التشدق يجعلان من التناقض سيد الموقف. قدرتنا على هضم المتناقضات في كل نواحي الحياة الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية تنبئ عن قدرة فائقة في التكيف والقدرات الذهنية ولكنها قدرات غير مسخرة للإنتاجية والتقدم. تفكيك هذا التناقض من خلال مسألة "المدير" الأعلى هي الخطوة الأولى.
لكيلا نتهم بالتنظير دعنا نستعرض بعض الأمثلة التي ذكرها محدثي.
أحد التناقضات العملية التي تمر بها المملكة في تجربتها التنموية تتلخص في تجربتنا مع اقتصاديات النقل وخاصة قطاع القطارات. يعد ربط أجزاء البلاد بشبكة حديثة من القطارات السريعة استثمارا استراتيجيا يتعدى الحسابات المالية. يتضح هذا التناقض في اكتشاف الملك الموحد عبد العزيز هذا البُعد منذ أكثر من 50 عاما، حيث استطاع ربط المنطقتين الشرقية والوسطى، وقد لعب هذا الشريان ولا يزال دورا محوريا في اقتصاد المملكة. تغير الظروف السكانية والاقتصادية والفنية جعل من هذا الإنجاز العظيم في حينه وحيدا وشاهدا على دور الرؤية في تغيير الأوضاع المادية على الأرض. يكمن التناقض في ظروف هذا الإنجاز مقارنة بحجم الإمكانات بين تلك الحقبة ووقتنا الحالي. وكما في تلك الحقبة واجه الملك المؤسس بعض الشكوك حول اقتصاديات هذا المشروع. هناك من قال إن السكان قليلون والحركة التجارية محدودة. هذه الشكوك لاتزال اليوم تأتي من "الخبراء" في مؤسسات دولية وممن يتلقى هذه النصائح دون ترو أو استقلالية في النهج. ما أشبه الليلة بالبارحة. يقولون لنا إن اقتصاديات ربط المملكة غير مقنعة ثم يربطون لندن بباريس ويسجلون خسائر مالية فلكية.
لعل تناقضا آخر في وسط تناقض أن الدول الغربية تربط بين الدول ثم ينصحوننا بأن ربط أجزاء البلاد غير اقتصادي ومكلف ماليا، وكأن المال أهم من تواصل أبناء البلاد الواحدة. لا يكاد يجف حبر دراسة حتى تبدأ دراسة أخرى حول قطاع القطارات وكأننا بحاجة إلى إقناع أنفسنا بأهمية هذا القطاع. ما زلنا في طور الدراسات وتقييم العروض، بينما غيرنا ينفذ قطار الوسادة المغناطيسية. يكفينا التبصر في تجربة الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، والغرف من تجربتنا الذاتية. نبحث عن تجربة الآخرين بينما تجربتنا غنية ويبقى التناقض سيد الموقف.
عندما نسمح بتسلط تناقض المواقف فإننا نسمح بضياع الطاقات وهدر الفرص. وما القطارات إلا مثال مادي على تحمل التناقضات. تناقض المواقف يصبح السيد حينما تغيب الرؤية النهضوية ويصبح التكيف بديل البوصلة الإدارية. التبصر في التناقضات في كل ما حولنا على المستويين الفكري والمادي، ثم حسم الأمور هو المفتاح لفك طلاسم هذه التناقضات.
