سكان وادي النقيع.. باحثون عن الحياة في وادٍ يحفه الموت!

سكان وادي النقيع.. باحثون عن الحياة في وادٍ يحفه الموت!

البحث عن مصادر الحياة هو العمل الذي اتفقت عليه البشرية منذ بدء الخليقة، مصادر الحياة التي تضمن استمرار تعاقب أنفاسهم وعدم توقفها، هكذا استمرت الخليقة وهكذا ظل "بنو آدم" يطلبون "الحياة" حتى ما بعد عصر الرفاهية في القرن 21، فرغم تطور وسائل العيش في العالم بشكل كبير ومتسارع، إلا أنه – وللأسف – يوجد من يعيش خارج هذا العالم وهو في قلبه، فلم يحظ بما حظي به الآخرون ولم يُقدم لهم ما يقدم للآخرين، وبقيت حياتهم وطريقة بحثهم عن "مصادر الحياة" على حال أسلافهم ممن كان بحثهم بدائيا ولا يعطي النتائج المرجوة لتعاقب الأنفاس!
قضية هذا الأسبوع تستعرض مكانا من هذه الأماكن التي لم تلحق بركب الحضارة، خارجة عن الزمان بإرادة من سكن فيها متمسكا بمكان ولادته.
وادي النقيع واد أخذ من اسمه نصيبا كبيرا، حيث بقي منسيا طيلة السنوات الماضية، حتى أصبح هذا الوادي وسكانه من "أميز" المناطق فقرا وحاجة على الخدمات، يعيش في هذا الوادي ما يقارب 40 عائلة، تتوزع أفراد الأسرة الواحدة من شخص وحيد إلى 22 شخصا يقطن أغناهم داخل عشش خشبية صنعوها بأيديهم حماية لأطفالهم من العراء والوحوش الليلية التي تكتفي غالبا بغذائها على مواشيهم كل يوم!
وادي النقيع ذو المساحة الشاسعة والأرض البيضاء يبلغ طوله 150 كيلومترا وتصب فيه روافد وأودية صغيرة متعددة منها أودية صخوى, النبعة, ضاف, اليتمة, الحنو, وريم, كلها تأتي من جهة الغرب، إضافة إلى عدة شعاب تحيط بها بمحاذاة جبال شاهقة. عندما يتوغل المسافرون في الطريق الصحراوي الذي يتفرع من طريق الهجرة السريع (70 كيلومترا غرب المدينة المنورة) سيصادفون أول أسرة من الأسر التي تقطن الوادي على بعد 30 كيلومترا شرقي مركز اليتمة, سيفاجأ من يمر على هؤلاء بطريقة عيشهم داخل بيوت من صفيح، وكيف أن هذا الصفيح لا يحتوي على ذهب أو فضة، هو صفيح يقطنون فيه حماية لهم من البرد شتاء والشمس صيفا، لا يوجد أي مصدر من مصادر الحياة حولهم، أرض شهباء فقط، ما يدعو إلى التساؤل فعلا: ما سبب وجودهم هنا؟

الحاجة إلى الماء
بسؤال أهل الوادي عن متطلباتهم تتوحد أصوات السكان وتعلو "ماء"، رغم أنه ليس هناك خدمات سوى الكهرباء التي مرت بهم عن طريق الصدفة كما يقولون! ورغم وجود هذه الخدمة إلا أنك عندما تشاهد كيف يسكنون ستعلم يقينا أن الشيء الوحيد الذي سيستفيدون منه عن طريق الكهرباء هي "الإضاءة" فقط لا غير، من الواضح أنهم لا يملكون أي أجهزة كهربائية أخرى، كل ما سيلاحظ فقط مصابيح كهربائية توضع على أبواب البيوت وداخلها ربما تصل إلى أقل من عشرة مصابيح لكل بيت!
من الواضح أن الكهرباء لا تمثل لهم هما كما للماء من أهمية، فهم يحضرون الماء بشق الأنفس من آبار بعيدة، وأكثرهم مالا هو ذلك الذي يستطيع أن يحضر "وايتا" لكي يعبئ به خزانات وضعها أمام منزل الصفيح حتى لا يكون بعيدا عن البيت.

البناء ممنوع
"السكن" يمثل هاجسا كبيرا ومؤرقا للأسر التي تسكن وادي النقيع، وذلك لأن البناء ممنوع في تلك الأماكن، فتعليمات السلطات البلدية تؤكد عدم البناء أو الترميم بأي حال من الأحوال في ذلك المكان، وهو الأمر الذي جعل شبان القرى هناك يهاجرون إلى أماكن أخرى يُسمح لهم ببناء بيوت لهم عند الزواج. وللعلم فإن الأماكن الصحراوية والتي لم يتم تخطيطها ضمن النطاق العمراني لا يمكن السماح بالبناء فيها، وهو الأمر الذي ينطبق على قرى وادي النقيع القديمة.
ورغم ذلك فإن بيوت الصفيح تمثل ملاذا لبعض الأسر التي رفضت الخروج من المنطقة الصحراوية، يقبلون بنقل الماء ومشقته، ويتعاملون مع شظف العيش بمهارة المحب للحياة، كل ذلك من أجل العيش في ذلك المكان الذي يرتبطون معه بروابط قد لا يفهمها أبناء المدن حتى ولو شرحت لهم!

النقل المدرسي
قضية نقل الطلاب والطالبات إلى المدارس تعتبر هما يوميا يواجه الأسر التي تسكن في وادي النقيع، إلا أن الفتيات هن الأكثر تضررا من القضية نظرا لاعتماد الطلاب على أنفسهم منذ الصغر، حيث لا مانع من ذهابهم بسيارات يقودونها هم ولو كانوا صغارا بالسن، أما الفتيات فيتم إركابهن كل صباح "الباص المدرسي"، وهو في الحقيقة ليس باصا بمعناه الفعلي، بل هو عبارة عن سيارة من نوع "وانيت بكب" خصص الصندوق لركوبهن كل صباح والعودة على ظهره ظهرا أيضا.
قرية اليتمة هي أقرب مكان توجد به مدارس للطلاب والطالبات، ويقع أقرب منزل من منازل طلابه خارجه حوالي 40 كيلومترا. في الرحلة اليومية من بيوت الطالبات إلى المدرسة والعكس، يستطيع أي مطلع على المشهد أن يميز ضيق المساحة التي تركب فيها الطالبات، 25 طالبة يجلسن القرفصاء في صندوق "الوانيت" المغطى بغطاء لا يحمي إلا من أشعة الشمس، رغم أن هذا العدد قل عن الماضي كثيرا، حيث بدأت بعض الأسر منع بناتهن من الذهاب للمدرسة خشية تعرضهن لحادث في هذا الباص البدائي برحلتيه اليوميتين ذهابا وإيابا من المدرسة.

نفوق المواشي
أهل القرى التي تسكن في وادي النقيع لا يملكون من أسباب الرزق سوى ما يمكن العيش به من خلال مواشيهم، لذلك يكون عمل الرجال والنساء في هذه القرى في المواشي رئيسيا، واعتمادهم على مهنة تربية المواشي قديمة، لذلك يعتبرون من الخبراء في تربيتها ومعرفة الطرق المثلى للتعامل معها والحصول على منتجاتها، إلا أن كل هذا لم يكن كافيا للحد من مشكلة نفوق المواشي في تلك المناطق، فإيجاد مأوى مناسب للمواشي في تلك المناطق يعتبر أمرا صعبا، ولذلك كانت وما زالت تلك المواشي طعاما مفضلا للوحوش البرية التي تعيش في تلك المناطق.
إضافة إلى وحوش البراري كأحد أسباب نفوق المواشي، ظهر مرض غريب يفتك بالمواشي، يسميه سكان تلك المنطقة بـ "أبو لغبوب"، وصار هذا المرض هاجسا يخافونه كل يوم، لأنه ينتشر بين المواشي بسرعة بطريقة لم يفهمها حتى الآن مربوا هذه المواشي، ولا يعرفون الطريقة التي تمكنهم من القضاء عليه، لذلك عشرات الأغنام تنفق خلال الأسبوع الواحد بسبب هذا المرض، وبسبب هذا المرض الغامض يؤكد أهالي القرى أنهم خسروا نصف ثروتهم حتى الآن.
إضافة إلى أمراض المواشي، يواجه أهالي النقيع نقصا في الخدمات الصحية تسبب في أمراض كثيرة عاناها قاطنو وادي النقيع رملت نساء ويتمت أطفالا، وبمرور سريع على منازل وادي النقيع يتضح أنه لا يوجد منزل يخلو من مريض، وأن هذه الأمراض التي أصيبوا بها مختلفة ومتنوعة الإصابات والأسباب، ومن هؤلاء ممن اضطروا إلى استئجار منزلا داخل قرية اليتمة أو حتى المدينة المنورة ليعالج مريضه ويرافقه في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها علاجا له.

نماذج للمعاناة
"علي عايش السهلي" أحد هؤلاء الذي يعيشون في وادي النقيع، يعول في منزله الخشبي 22 فردا ضاقت بهم الحال، هو لا يستطيع إسكانهم في بيت أكبر يسع لهم غير "العشة" التي بناها هو، يتنقل أبناؤه بين عشته والقرى الأخرى بحثا عن رزق بعد ضيق حال والدهم ومنزله!
"خديجة دحيلان السهلي" أرملة تخلت عنها المساعدات وابتعدت عنها سبل الحياة بعد فراق زوجها، تأوي إلى خيمة صغيرة تنام فيها، يحيط بالخيمة سياج حديدي ضعيف التركيب، لكنها تظن بمخيلتها البسيطة أنه سيقيها من شرور الحيوانات البرية، تحلم "خديجة" ببيت مكون من غرفتين فقط، هي كما تقول لا تحتاج إلا لتستر نفسها بعيدا عن هذه الخيمة التي طالما شعرت بالخوف وهي تسكن فيها.
"زهيميل السهلي" مثال آخر لهؤلاء، لكنه أبى أن يرحل محرر "الاقتصادية" دون تقديم واجب الضيافة له، بتناول قليل من الشاي الذي أعده بيديه على نار وقودها الخشب، فيما طلب منه الجلوس في مكانه المفضل كما يقول، وهو حيز صغير أمام عشته يستقبل ضيوفه فيه لأن الهواء داخل العشة لا يمر كما يمر في هذا المكان! ابن عمه "عياد مسفر السهلي" اختار قطعا من الحديد والخشب والأقمشة البالية ليبني بيته بجوار منزل زهيميل، إلا أنه يقطن في بيته وحيدا دون ابن أو زوجة لأكثر من 30 عاما خلت.

"الخيرية".. العائل الوحيد
الجمعية الخيرية في اليتمة هي الجهة الوحيدة التي تقدم المعونات لأكثر من 570 أسرة وفق الإمكانات المتوافرة، وقد قسمت هذه الأسر إلى ثلاث فئات هي الفئة (أ) وتحصل على إعانة شهرية من الجمعية بحيث لا يمكن تأخير هذه الإعانة، لأن الأسرة ليس لها عائل أو دخل شهري غير هذا الدخل، وهم يعتمدون على الجمعية فيه. الفئة (ب) وهم الأسر التي تعتبر أقل ضررا معيشيا، وتكون حالتها الأصلية أفضل قليلا من الأسر التي لا عائل لها، يحصلون على إعانة كل ثلاثة أشهر تقريباً بحسب الكميات المتوافرة من المواد الغذائية. أما الفئة (ج) وهي التي تحصل على إعانة في أشهر شعبان ورمضان، إضافة إلى حقائب مدرسية بداية كل فصل دراسي.
السلة الغذائية التي تقدمها الجمعية للأسر الفقيرة تشمل خمسة كيلو جرامات من الأرز, وكيس دقيق، سكر، شاي، وزيت، وعدد ثلاث علب فول لكل أسرة.
بندر حامد مسؤول الحسابات في الجمعية يؤكد أن الجمعية تواجه في بعض الأحيان نقصا في مواردها، حيث تنفذ عدة مشاريع من ضمنها مشروع السلة الغذائية ومشروع كفالة الأيتام، حيث تكفل الجمعية عدد 110 يتيما في قرى "اليتمة"، وقد أنهت الجمعية أخيراً بناء ثلاثة منازل صغيرة مسلحة قريباً من "اليتمة" لإسكان ثلاث أسر بها أرامل وأيتام كانوا يعيشون في القرى النائية، وذلك بمساعدة من بعض المتبرعين, إضافة إلى مشروع "السقيا بالوايتات"، حيث قامت الجمعية خلال العامين الماضيين بإنشاء عدد تسع خزانات لمياه الشرب لسقيا الأهالي بسبب النقص الحاد في مياه الشرب في "اليتمة" والقرى التابعة لها كافة.

الأكثر قراءة