التكافل الاجتماعي .. ثقافة وإجراءات عملية (2-2)

[email protected]

في مقال الأسبوع الماضي تناولنا الأسس الدينية والفلسفية التي تشكل القاعدة الأساسية لثقافة التكافل الاجتماعي، والتي تمثل الوقود الانفعالي، والمشاعري الذي يحفز الناس، ويشجعهم على فعل الخير، ومد يد العون للآخرين الذين يستحقون المساعدة في جميع المجالات. لكن وكما سبق الإشارة فإن الثقافة وحدها لا تكفي لسد العوز، وقضاء حاجات الناس، وتمكينهم من الحصول على احتياجاتهم الأساسية في الحياة.
إن الثقافة بدون إجراءات، وأنظمة، وقنوات منظمة لن تحقق ما يتطلع إليه الجميع بشأن التكافل الاجتماعي. ولعله من المناسب أن نبسط القول بشأن الإجراءات العملية مع المقارنة بين المجتمعات المختلفة، والأساليب القائمة فيها، أعمال الخير والبر من الممكن أن يقوم بها الأفراد، والجماعات، والمؤسسات، والجمعيات، إضافة إلى الجهات الحكومية ذات العلاقة بهذا الشأن. الأفراد ينشطون، ويبذلون ما في وسعهم لعمل الخير، ومد يد المساعدة، وذلك بإخراج زكاتهم، وصدقاتهم، ومساعدة المحتاجين، سواء بمدهم بالمال المباشر، أو الطعام، والكساء، أو إسكانهم، لكن الجهود الفردية محدودة بحدود الإمكانات المادية، ومحدودة بحدود المعرفة المتوافرة لهم بشأن المستحقين، فالأفراد مهما بلغ نشاطهم، وحماسهم لفعل الخير لن يكون بمقدورهم معرفة المستحقين، ولذا نجد في مجتمعنا أن الأفراد يخرجون زكاتهم في محيطهم الضيق، وهذا جيد وينسجم مع القاعدة الشرعية .. (والجار ذي القربى والجار الجنب)، لكن هذا قد يترتب عليه حرمان من لا يعرفهم الفرد، وعدم وصول الزكاة، والصدقات لهم لأنهم ينطبق عليهم ما ورد في الآية الكريمة (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) فهم لا يظهر عليهم الفقر، والحاجة رغم أن واقعهم خلاف ذلك، بل إن الزكاة تحولت في بعض الحالات، والظروف إلى ما يشبه العادة، حيث تدفع لأفراد أو لأسرة لمجرد العادة رغم أن الأفراد، أو الأسرة قد تغير وضعها إلى الأحسن، وليست بحاجة إلى الزكاة أو الصدقة، وهذا مرده عدم توافر المعلومات على نطاق واسع، وخارج دائرة أقارب الفرد أو حيه ومدينته التي يعيش فيها.
أعمال البر والخير طرأ عليها الكثير من التغير في جميع المجتمعات العالمية، وتأسست جمعيات وهيئات اجتماعية تعمل على فعل الخير، وسد حاجات الناس، والقيام بالمشاريع ذات النفع العام، وهذه الجمعيات دورها بلا شك أوسع دائرة من تلك المتوافرة للأفراد، لأن هذه الجمعيات مصادر دعمها متعددة والعاملون بها كثر، وفي الغالب هذه الجمعيات تخدم حياً كاملاً أو مدينة، ويتوافر لها من المعلومات أكثر ما يتوافر للأفراد بشأن الأسر، والأفراد المحتاجين.
ومما يلفت النظر في الغرب خاصة في أوروبا وأمريكا مزاولة الكنائس دوراً بشأن التكافل الاجتماعي، حيث توزع الكنائس بعض المواد الغذائية الأساسية كالحليب، والأجبان وغيرها على الأسر الفقيرة، وفي المدن الكبيرة التي يوجد بها مشردون توجد المآوي أو المهاجع التي توفر مهجعاً ووجبة عشاء حارة وبعد الإفطار يغادر المشرد إلى حيث وجهته، كما تقوم هذه الكنائس بالدوران في شوارع المدن في ليالي الشتاء، وتوزع البطانيات على الأفراد المشردين الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى المهاجع، كما تسير سيارات إسعاف لنقل الأفراد الذين يتعرضون للمرض نتيجة البرد القارس، ولقد شاهدت سيارات تابعة لإحدى الكنائس بالقرب من إحدى الحدائق العامة في واشنطن العاصمة توزع وجبات حارة في أحد الأيام على أفراد مشردين اتخذوا من تلك الحديقة مكاناً يقضون به نهارهم.
تأملت في دور المسجد بشأن التكافل الاجتماعي فلم أجد إلا ممارسات موسمية، كما يحدث حين يتم تفطير الصائمين في رمضان، وذلك باستخدام المسجد كمكان يتم فيه التفطير من قبل أفراد موسرين، لكن المسجد كمؤسسة اجتماعية معتبرة قد لا تقوم بهذا الدور، نظراً لعدم وجود موارد مالية تخص المسجد، كما أن المسجد في بعض الدول الإسلامية يستخدم كمنطلق لتوزيع لحوم الأضاحي على المستحقين، وهذا يحدث في جمهورية مصر العربية، ولعل مشروع الأضاحي الذي تبناه البنك الإسلامي يمثل نموذجاً للتكافل الاجتماعي ذا طابع شمولي، حيث يمتد نشاطه إلى جميع المجتمعات الإسلامية.
هذه صور من أمثلة الجهود التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني لمواجهة الفقر، والعوز، والحاجة. المستوى الثالث الذي قد يسهم في التكافل الاجتماعي هو المستوى الحكومي، وهذا أقدر من غيره على القيام بهذا الدور، نظراً لما يتوافر له من موارد مالية ضخمة، وإمكانات هائلة بشرية، ومادية، وهذه جميعها تسهم في تحقيق التكافل الاجتماعي بأحسن صورة. الحكومة تضع الأنظمة، والقواعد، وتحدث البرامج، وتضخ الأموال، وتوفر لها الكوادر البشرية القادرة على مزاولة العمل الخيري، سواء بصورة مستمرة على هيئة موظفين يعملون في هذا المجال، أو المتطوعين، ومن يعملون في المواسم، كما أن الحكومة في المجتمع الإسلامي هي من يقوم بجباية الزكاة من المؤسسات، والشركات، لكن مصرف الزكاة المتحصلة من الشركات، والمؤسسات ليس واضحاً أين ينتهي، فهل هو أحد روافد الضمان الاجتماعي، أم أنه يصل إلى مستحقيه بطرق، وأساليب أخرى ليست واضحة على أقل تقدير بالنسبة لي.
ذكر لي أحد الزملاء الذين درسوا في بريطانيا أن الحكومة البريطانية تدفع 40 جنيهاً استرلينياً كل شهر أي ما يقارب 280 ريالاً سعودياً لكل طفل حتى إن لم يكن بريطانياً طالما أنه يعيش على الأرض البريطانية، ومع هذه الصور من صور التكافل الاجتماعي لمجتمعات متعددة أرى أنه، ومن أجل الارتقاء بهذا الجانب لا بد من تضافر جهود الأفراد، ومؤسسات المجتمع المدني والحكومات، كما أن الأمر يتطلب إيجاد قاعدة معلومات للأفراد والأسر تتضمن الوضع المادي، والوظيفي لكل فرد، ولكل أسرة على أن تكون هذه المعلومات متوافرة لكل من يحتاج إليها مع المحافظة على كرامة الجميع، وعدم استخدام هذه المعلومات للإساءة للمستحقين، والمعوزين.
كما أن التنسيق بين الجهات المختلفة، واستغلال جميع الموارد، سواء من الأفراد، أو الأوقاف، أو ما تخصصه الحكومة لهذا المجال سيسهم، وبلا شك في الارتقاء بمستوى التكافل الاجتماعي، وتغير أنماطه ليشمل عقد دورات في جميع المجالات من خياطة، وطبخ، ومهارات في الحاسب الآلي، والميكانيكا، والكهرباء، والسباكة، وأعمال الإسعاف، والإغاثة وتقديم الخدمات الطبية وتوفير السكن...إلخ فهل يكون التصور الشمولي للتكافل الاجتماعي هو طموحنا المستقبلي؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي