عن " التتن " أيضاً

[email protected]

كتب الزميل المتألق الأستاذ صالح الشهوان في زاويته "مجاز" مقالة بعنوان "أيام التتن" عرض فيها لشيء من تاريخ التتن في بلادنا، خاصة مدن نجد، وما أحاط به مع بدايات دخوله من قصص وأساطير، وعرض لما شهده "التتن" من تطور، ارتقى به من "الشاور" إلى "البكتات" الأنيقة، المرصوفة بكل عناية في مداخل الأسواق التموينية!
هذه المقالة، ومقالة الزميل الشهوان، ليستا في سياق الترويج لهذه الآفة، التي ثبت لكل عاقل مدى خطورتها، إنما هي محاولة لرصد شيء من تاريخ "التتن" ومسيرته عبر قرون، رغم الممانعة الاجتماعية، المدعومة دينياً، تجاه هذا الطارئ الغريب.
يبدو لي أن "التتن" - وهي كلمة محرفة من الكلمة التركية ( توتون) التي تعني الدخان- دخل إلى بلاد نجد في القرن العاشر الهجري، حيثُ ثمة فتوى لأحد طلبة العلم في نجد في تحريمه، وهو الشيخ أحمد بن عطوة، المتوفى عام 948هـ، الأمر الذي يعني انتشاره آنذاك ووجوده بوفرة. ولقد كان للعقيلات والجماميل ( أهل الحدرات) دور في دخول الدخان إلى المدن والقرى النجدية، ولا يمكن تتبع مسار "التتن" وتطوره إلا من خلال الشعر النبطي، ذلك أن ثمّة شعراء تغنوا بالدخان، فقد كان أنيسهم ومرافقهم. يقول الشاعر عبدالله بن رشيد، مؤسس إمارة آل رشيد عام 1250هـ:
لا دكّ في قلبي ثمانين هاجوس الشاوري بالكيس والنار حيّه
فالشاعر عبد الله بن رشيد يتحدث عن "الشاور" ومثله الشاعر محمد بن مهلهل، من مشاهير قبيلة عنزة، حيث يقول:
طس السبيل من أشقر التتن طسّه الشاوري يبري عن القلب عله
من كيس قرمٍ دايمٍ مايدسه تلقاه محذوف على جال دله !
بينما الشاعر مشاري بن ربيعان، توجّد على "العظم" الذي يكوي جروحه، يقول:
الله على العظم يوم إني أملاه أكويه بالجمرة ويكوي جروحي !
وكتعبير عن الممانعة التي أبداها أهالي نجد تجاه "التتن" والقسوة التي يواجهها شاربه من قبلهم، فإن الشاعر رشيد العلي، من شعراء الزلفي، وتوفي عام 1311هـ، وهو من أهل "الحدرات" يقول:
إن حدرنا نكرنا والتتن شاربينه
وإن رجعنا اعتذرنا ولليمين مطرفينه !!
فالشاعر رشيد يقول إن حدرنا، والحدرة مأخوذة من انحدار هضبة نجد شرقاً، أي إن ذهبنا إلى الكويت فلسوف ننكر ونشرب التتن! وحينما نعود إلى الزلفي فسنقسم لأهلنا أننا لم نشربه! ولقد كانت الكويت في تلك الفترة الحلم لدى كثيرين من شباب نجد، فهي الرئة التي يتنفسون من خلالها "التتن" وغيره. وبسبب مناخ الانفتاح الذي كانت تعيشه الكويت شاع المثل " وش خانة الكويت" وقصته أن رجلاً من أهل نجد ذهب إلى العمل في الكويت، وكان قد سمع عما تعيشه الكويت من انفتاح وكوّن في ذهنه صورة جميلة عنها، فلما أذن المؤذن لصلاة الفجر، جاء من يوقظه للصلاة! فقال: وش خانة الكويت؟! أي ما فائدة الكويت وما فرقها عن قريتي النجدية إذا كنتُ سأصلي الفجرَ في وقتها؟!
برأيي أن شعر الشاعر المتصعلك بندر بن سرور يضم كثيرا عن حكايات التتن وعلاقته به، وعلاقة مهربي التتن وإفلاتهم من قبضة رجال الجمارك، فهذا بندر يصف مركز الكبريت الحدودي بأن سيارات "الفروت" يسهجنه! أي يتركنه يميناً أو شمالاً، يقول:
مركز الكبريت لازم يسهجنه يسهجنه مقبلاتٍ مقفياتِ
لا نهمت الفرت جاك الفرت كلّه كنه يشرب من غراش المسكراتِ
وعن الدخان، يقول بندر مخاطباً رفيق سفره:
دوّر الكبريت ولّع لي زقاره يا عشير اللي تهزأ بالبناتِ
ويقول أيضاً مخاطباً صديقه منير:
يا منير عمّر لي من "التتن" معمار يبرى الغليل اللي على القلب صالي!
وإلا رفعت الصوت وأبديت ما صار من شان تدري ويش ولّع بحالي!

الحديث عن بدايات التتن في نجد طويل، غير أني أريد أن أختم بأن "المعسل" أيضاً دخل إلى نجد في وقتٍ مبكر، وكان يُسمى "البربورة" وقد ورد له شاهد في شعر حميدان الشويعر (ت 1180هـ، تقريباً) يقول حميدان:
يا عيال الندم يا ربايا الخدم يا غذايا الغلاوين والبربرة
فحميدان ذكر "البربورة" أي المعسل وكذلك الغليون! وللحديث بقية أو بحث طويل!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي