المخواة.. سوق الثلاثاء تحالف عتيق بين التجارة والثقافة والتراث
في كل أسبوع وعلى مدار العام يحجز محبو الثقافة والتراث على جداول أعمالهم موعداً محدداً وهو (يوم الثلاثاء، من بعد صلاة الفجر وحتى موعد صلاة الظهر) وهو موعد سوق الثلاثاء الأسبوعية في محافظة المخواة، وهي واحدة من أهم أربعة أسواق شعبية مازالت قائمة في منطقة الباحة.
يعود تاريخ هذه السوق إلى حقبة قديمة من الزمن، حسب روايات الكثير من كبار السن في المنطقة الذين يذكرون أن السوق موجودة منذ زمن بعيد وكانت تستمر حتى يوم الخميس، كانت تشرف عليها قبيلة بني عاصم. هذه السوق والتي قد يختلف مكانها عن موقعها التاريخي، وتزيد معروضاتها عما كان سابقاً، يبقى ملتقى رئيسا لأهالي المنطقة، يفد إليها المتسوقون من كل مكان للبيع والشراء وتبادل الأخبار والمشورة محتفظاً بكم كبير من عبق التاريخ وثقافته ومنتجاته وأخلاقياته.
30 ألف متر .. و5 أقسام
على مساحة تزيد على 30 ألف متر مربع، تقع سوق الثلاثاء الأسبوعية في محافظة المخواة في منطقة الباحة على بعد 40 كيلوا متر تقريباً من مركز المدينة. وتتكون السوق من خمسة أجزاء رئيسة هي سوق الماشية والأعلاف، سوق التمر، سوق الخضراوات والفواكه والمنتجات الزراعية، سوق الملابس والعطور، سوق الحرف اليدوية.
يقصد سكان منطقة الباحة والمناطق المجاورة لها هذه السوق من كل حدب وصوب، سواء جبال السروات أو من المناطق الساحلية الأخرى. وتتزايد الحركة في هذا السوق خلال مواسم الإجازات المدرسية.
يتخذ الباعة أماكنهم داخل السوق وكأنما هناك اتفاق ضمني بين الجميع على التوزيع أعلاه، داخل هذه السوق، فتجد لكل قسم أهله وهم يعرفون بعضهم بعضا، بل إنهم يعرفون أماكنهم داخل السوق دون التعدي على أماكن زملائهم من الباعة الآخرين حتى وإن سبقهم إلى المكان ذاته.
التيوس التهامية
أكبر مساحات سوق الثلاثاء هي المساحات المخصصة لسوق الماشية والأعلاف، وهو الجزء المفصول عن بقية أجزاء السوق الأخرى، وهذه السوق تشتهر كثيراً ببيع نوع التيوس من الماشية، أكثر من غيرها من الأنعام وخاصة التيوس التهامية، والتي يقبل عليها المتسوقون بشكل كبير حتى وإن غلا ثمنها، فهي المفضلة لدى أبناء المنطقة. وقد يصل سعر الواحد منها ذي الحجم المتوسط إلى 450 ريالا، ويعتمد ذلك على القدرة التفاوضية للراغب في الشراء، فأسعار السوق تخضع بشكل كبير إلى المساومة والتفاوض على الأسعار، وقد حضرنا إحدى مفاوضات شراء أحد تلك التيوس والتي استمرت ما يزيد على 20 دقيقة انتهت إلى شراء أحد التيوس بمبلغ 550 ريالا.
وإضافة إلى التيوس هناك الأغنام، والأبقار ولكن بكميات أقل، فالأسواق المخصصة لهذا النوع من الماشية منتشرة في كل محافظات المنطقة. أما سوق الأعلاف فهو الأكبر على مستوى المنطقة وبه تباع جميع أنواع الأعلاف والحبوب لتسمين وتغذية الماشية بأنواعها.
وبجوار قسم الماشية والأعلاف لم تمنع أزمة إنفلونزا الطيور عددا من الموطنين المحليين من القيام بعرض ما لديهم من طيور محلية مثل الدجاج البلدي والحمام والحجل البري، وغيرها من الطيور. فهم يقومون بتربيتها وبيعها كمصدر رزق لهم ولذويهم.
التمور تحضر
في الجزء الآخر من السوق هناك الكثير من الأقسام، والتي بدأناها بقسم التمر، وفي هذا الجزء تنتشر أنواع التمر المختلفة وخاصة تمور المنطقة الجنوبية والقادمة من بيشة، نجران، تربه وغيرها، ويأتي على رأسها نوع الصفري والقادم من بيشة. وكما أن أنواع التمر مختلفة فطرق تعبئته وعرضه مختلفة أيضاً، فهناك ما هو معبأ، فيما يعرف محلياً بـ"التنك" وهو التمر المعبأ في علب من صفائح التنك غير القابل للصدأ، ويتم تعبئتها من خلال وضع التمر الجاف في تلك العلب ومن ثم إضافة قليل من الماء إليها ومن ثم الضغط عليها بمكبس وبقوة ضغط عالية نسبياً لإخراج الماء الزائد، حتى لا يتسبب في حموضة التمر فيما بعد، وهناك أحجام من هذه التنك, فمنه الكبير والمتوسط والصغير وهو ما يعرف محلياً بالـ (نص)، ويراوح سعر التنكة المتوسطة ما بين 70 و110 ريالات حسب نوع حبة التمر وحجمها.
إضافة إلى التنك، يباع التمر المجفف على نوعين تعرف محلياً بـ "الهليل" أو "القسبة" والهليل أكثر ليونة من القسبة فالهليل يمكن أكله كما هو أو إعادة تعبئته في التنك لتخزينه لمدة أطول، بينما القسبة بها نوع من الصلابة نتيجة التجفيف ولا يعاد تعبئتها في التنك، بل تؤكل مباشرة، وما يلفت الانتباه أن الباعة يستخدمون بشكل كبير مقاييس الوزن القديمة ومثل (المد) بدلاً من الميزان (الكيلو) في عملية الوزن للتمر المجفف وعادة ما يراوح سعر المد من 50 إلى 70 ريالا للمد.
بعد ذلك انتقلنا إلى قسم الخضار والفواكه، والمنتجات الزراعية الأخرى. وهنا يباع الكثير من المنتجات الزراعية المختلفة والنسبة الكبيرة منها منتجات محلية أو مزروعة محلياً، إضافة إلى ما يرد إلى السوق من المناطق الأخرى أو من خارج المملكة.
الخضراوات والورقيات
فمعظم منتجات الخضراوات والورقيات المختلفة هي منتجات محلية يتم زراعتها في محافظات المنطقة المختلفة. وما لفت انتباهنا هو كثرة المعروض من أعواد البصل الخضراء، التي يتم إحضارها إلى السوق من محافظات المنطقة الأخرى نتيجة للطلب المتزايد عليها في هذه السوق بالذات، فتناول تلك الأعواد هي من العادات الغذائية لدى أبناء المحافظة. كما يتضمن هذا القسم بيع النباتات العطرية ذات الرائحة الزكية والتي تعطر المكان مثل الريحان، الكاذي والبعيثران، وجميعها نباتات محلية ويقبل عليها أهالي المنطقة بشكل كبير، فالنساء يستخدمنها لتوزيعها في أنحاء المنزل وفي خزانات الملابس، مما يضفي على أجواء المنزل رائحة زكية تدوم لفترة من الزمن. وما يلفت الانتباه في هذا الجزء من السوق هو بيع الشتلات الخاصة بعدد من المنتجات الزراعية المحلية مثل الموز المحلي أو ما يعرف محلياً "موز الصدر" وكذلك شتلات الكاذي والريحان.
حرف وصناعات تقليدية
في مكان آخر داخل السوق ينشر باعة الحرف والصناعات التقليدية واليدوية معروضاتهم على أرصفة السوق، ما يشكل لوحة فنية رائعة يزيد جمالها العارضون أنفسهم بهيئاتهم المتواضعة ولهجاتهم المحلية وعبق التاريخ الذي يكسو ملامحهم. ففي هذا الجزء يضع بائع القطران كميات كبيرة مما أنتجته يداه بين يدي المتسوقين، وقد راعى في معروضاته رغبات المستهلكين فقام بتوفير أحجام متعددة من المنتج تتدرج من الكبير جداً إلى الصغير. كما أن المنتج ينقسم إلى قسمين هما القطران ذو الكثافة العالية الذي في الكثير من المهام منها طلاء المنتجات الخشبية لحمايتها من العوامل الجوية والبيئية المختلفة، كما يستخدم لطلاء الإبل والأغنام لتطهيرها. أما القسم الثاني وهو الأغلى سعراً والأخف كثافة فهو ما يسمى محلياً بـ "المهل". وعند طلاء الأواني الخشبية المستخدمة لشرب الماء بهذا القطران فإنه يضفي على الماء طعما رائعا.
"المسحاة" والعتلة
وبجواره يقف الحداد ليعرض ما صنعته يداه من أدوات للزارعة والحفر مثل "المسحاة" والعتلة، وكذلك أدوات البناء مثل: الفانوس، المطرقة، والأزميل، وأدوات تقطيع الأشجار مثل ما يعرف محلياً باسم "العطيف". كما يقدم لنا هذا الحداد المبدع أنواعا من الأدوات المستخدمة في عمل الخبر مثل "الصاج". إضافة إلى الكثير من الأدوات ذات الاستخدام المتخصص.
أما الخوصيات وهو جميع ما يصنع من السعف والخصف فتنتشر في أرجاء السوق, ويقوم بعرضها غالباً النساء، حيث إنهن من يقومن بصناعتها. وهذه الصناعة توفر الكثير من المنتجات، منها ما يستخدم للتنظيف, ومنها ما يستخدم لحمل الأمتعة, ومنها ما يستخدم في موائد الطعام وأثاث المنازل. فهناك ما يعرف محلياً بـ"المقشة" أي المكنسة اليدوية, وهي تستخدم في تنظيف المنزل من الداخل وفناء المنازل. كما أن هناك "الزنبيل" أو "القفة" وجميعها تستخدم لحمل الأمتعة والمؤن والمواد، والقفة أكبر حجما من الزنبيل، وهناك أحجام مختلفة لكل نوع منها. أما أدوات المائدة فهي السفرة المصنوعة من الخصف، وكذلك "المحصل" وهو ما يستخدم لتقديم الخبر. إضافة إلى ذلك هناك القبعات التي تستخدم للوقاية من أشعة وحرارة الشمس للمزارعين. ويبدي حرفيو هذه الصناعة اهتماماً كبيراُ بالتصميم والإخراج للمنتج حتى يكون جاذباً للمتسوقين. وما يشد انتباه المتسوق في هذا الجزء تلك الأسرة والكراسي المصنوعة من الخصف والمخرجة بطريقة فنية رائعة، والمعروفة محلياً باسم "القعادة"
حضور اليمنيين
في الطرف الآخر من السوق تصطف سيارات الأشقاء اليمنيين لعرض ما لديهم من منتجات البهارات والقهوة العربية والحبوب المختلفة. وتشتمل تلك المعروضات على القهوة العربية بعدة أنواع، والقشر والزنجبيل، بأنواعه المختلفة, وكذلك الهيل والقرفة والنانخة والقرنفل. هذا بخلاف الحبوب الأخرى من ذرة بيضاء وصفراء بمسميات وأنواع مختلفة، وكذلك الحلبة والعدس وما يسمى محلياً "دجر". ما لفت نظري هو طريقة العرض المميزة لتلك المنتجات، وألونها المتعددة والمتدرجة ما يشكل لوحة فنية تشكيلية رائعة.
وعلى الرغم من أن هذه السوق هي سوق شعبية أسبوعية إلا أن الأدوات الحديثة من عطور وأوان منزلية وملابس، لها حضور جيد، فهناك الكثير من العارضين للعطور, إضافة إلى المنتجات الشعبية الأخرى مثل البخور, والعود. كما أن هناك من يقوم ببيع الأواني المنزلية الحديثة والملابس بأنواعها نسائية ورجالية.
دور المرأة
بقي أن أشير إلى أن وجود المرأة في هذه السوق كبائعة وربة عمل كان حاضراً وبشكل ملحوظ، وكانت تنافس الرجال في الحصول على لقمة العيش لتؤمن مصدر دخل لها ولأفراد أسرتها، دون الحاجة إلى قرار من الجهات المختصة بالسماح لها بممارسة هذا الدور أو منعها من ذلك، فهي ليست بحاجة إلى ذلك. وقد أثبتت بكل جدارة واستحقاق أنها قادرة على أن تكون فرداً منتجاً وفاعلاُ في المجتمع وفق الإمكانات والظروف المحيطة بها. وهو ما يدفعني إلى التساؤل هل قامت الجهات المختصة بدراسة هذا الموضوع ووجود المرأة السعودية في جميع الأسواق الشعبية دون الحاجة إلى موافقة أي جهة كانت؟ وذلك للاستفادة من هذا الوضع في تحرير عمل المرأة والرقي بعملها في المجال التجاري، لتنتقل من بسطات الأسواق الشعبية إلى محال المراكز التجارية الحديثة، ومن المنتجات الحرفية التقليدية فقط إلى الأسماء التجارية العالمية.
- هيئة السياحة تدرس تطوير السوق كوجهة جاذبة للسياح
يعد سوق الثلاثاء الأسبوعي في محافظة المخواة من المعالم السياحية المميزة لمنطقة الباحة وهو أحد المواقع التي يحرص زوار المنطقة على زيارتها والتسويق فيها. ولذلك فقد قامت الهيئة العليا للسياحة بالتعاون مع بلدية محافظة المخواة بدراسة تطوير السوق مع المحافظة على النشاطات الحالية له وما يحتويه من تراث ثقافي واجتماعي وإعادة تأهيله وتطويره كوجهة اقتصادية وسياحية، وذلك برفع كفاءة التخطيط والتنظيم وعرض منتجاته وتوزيع أنشطته وتنسيق حركة المشاة والمركبات بصورة تلائم أهمية السوق كموقع اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياحي له خاصية الاستدامة. وينتظر أن يتم البدء في تطبيق نتائج هذه الدراسة خلال هذا العام.