التعليم العالي والمنافسة الدولية: حين تهوي الحدود السياسية
لم يعد الهدف الرئيسي للتعليم العالي في كثير من دول العالم تخريج قوى عاملة للسوق المحلية، بل أشخاص قادرين على المنافسة الدولية، خاصة بعد نسبة التنقل العالية التي أنتجتها الاستراتيجيات التجارية الحديثة مثل العولمة التي تكاد تلغي الحدود الإقليمية أمام الأسواق العالمية بخلقها أسواقاً تتطلب حرفية عالية ومهارة تتماشى مع المواصفات العالمية، مما يجعل المنافسة على أشدها بين المهنيين في القطاعات كافة. فلم يعد مهندس الحاسب أو الطبيب ينافس على مستوى محلي أو إقليمي، بل اتسعت الدائرة وزاد التحدي حيث ينافس الآن على الصعيد العالمي، فإن كان على قدر المنافسة فسينعكس ذلك على مستواه مهنياً ومادياً، وإلا ظل في درجة ثانية حتى في بلده.
تجهز عديد من الجامعات طلابها ليكونوا أعضاء فاعلين في سوق عالمية أكثر حركية عما كانت الأسواق عليه في السابق. فمثلاً تطلب كثير من الجامعات من طلابها أخذ مواد خارج البلاد، أو التطبيق في شركات ذات نشاطات عالمية مما يلزم منه احتكاكهم بخلفيات سوقية متعددة. كما تحرص الجامعات العالمية على استقطاب الطلاب والأساتذة من دول العالم كافة، ليس فقط من أجل التنوع الثقافي الإيجابي في مؤسسات التعليم العالي وأثره في إكساب الطلاب ثقافة أوسع، بل إنه كذلك يجلب للجامعة خلفيات اقتصادية مهمة ليتخرج الطالب قادراً على التأقلم مع التغيرات الاقتصادية العالمية، وهذه هي مهمة الجامعات الحديثة.
تخضع بريطانيا حالياً نظام التعليم العالي لديها لتطوير شامل بهدف القدرة على المنافسة العالمية، حيث تشير الدراسات إلى أن بريطانيا إذا لم تفعل ذلك فإن مؤسسات التعليم العالي لديها ستخسر المنافسة مع عديد من الجامعات الأوربية أو جامعات العالم الناشئة، والصاعدة بقوة في التصنيفات العالمية، مثل جامعات سنغافورة، والهند، والصين، وكوريا، تلك الدول التي رسمت سياسات تطويرية للتعليم العالي بدأت تؤتي ثمارها.
ولحسن الحظ فإن جامعاتنا أصبحت على دراية بأهمية هذا البعد العالمي في التعليم العالي، فبدأت البعثات الخارجية في وقت مبكر، وكثير منها الآن يعقد اتفاقيات وعقود خدمات مع عديد من الجامعات العالمية، وهذا ما يجعلني واثقاً من أن مستقبل التعليم العالي في المملكة سيأخذ بعداً عالمياً في وقت قياسي، فالاحتكاك بالخبرات العالمية الجادة سيكسب الجامعات السعودية حديثة السن نسبياً التجربة العالمية المطلوبة للدخول في منافسة مع دول العالم التي بدأت ترى في التعليم العالي استثماراً حقيقياً في الاقتصاد الوطني.
ولعل الجامعات أيضاً تستقطب طلاباً من دول العالم كافة للنهوض بالمستوى العلمي للطلاب السعوديين الذين سيتأثرون إيجابياً دون شك باحتكاكهم بطلاب من جنسيات عديدة. كما سيؤدي ذلك لإدخال عديد من السلوكيات الإيجابية لدى الطالب السعودي، مثل الجدية العالية، والعمل داخل الجامعات، والحرفية البحثية، وهي أمور مازال الطالب السعودي يعاني قصوراً واضحاً فيها. كما أن للتوسع في استقطاب الطلاب والأساتذة المتميزين من دول العالم كافة دوراً واضحاً في إكساب الطلاب بعداً عالمياً وقدرة على المنافسة العالمية التي لا فكاك عنها، ناهيك عن أن لتواجد الطلاب العالميين الجادين والأساتذة المتميزين تأثيراً إيجابياً كذلك على أساتذة الجامعات السعودية بربطهم بعلاقات علمية بعدد من مؤسسات التعليم العالي العالمية، والاستفادة من ذلك في البحوث والمشروعات المشتركة وفترات التفرغ العلمي.
بل إن التأثير الإيجابي سيمتد لإدارة الجامعات بإكسابها مهارات وسياسات تعليمية عالمية، وتعريفها بأساليب جديدة في إدارة المؤسسات الأكاديمية، ومراكز البحث، ويتيح لها الارتباط العلمي والمهني والتنظيمي مع الجامعات العالمية من خلال تبادل الطلاب والأساتذة والمشاريع البحثية والعلمية.