التعليم العالي .. تعليق الوزير
في لقاء حديث مع بعض المختصين ذكر وزير التعليم العالي أنه واع بظاهرة تكدس طلبة دراسات عليا سعوديين في جامعات معينة في أمريكا وغيرها, وكان رده على هذه الظاهرة أنه سينظر في دراستها. الحل المعتاد أن تنظر الوزارة في تشكيل لجنة أو خطاب عابر إلى الملحقيات التعليمية.
استوقفتني هذه الظاهرة الكبيرة في معانيها الصغيرة في كونها جزئية في منظومة التنمية الكبيرة, حيث إنها تعطي المراقب دلالة كبيرة على نظرة بعض الأجهزة الحكومية لدينا إلى المسؤولية عموما ومسؤولية التعليم الجسيمة خصوصا. قلما يكون هناك إعلان معبر عن سياسة تعليمية متسامحة إلى حد عدم التفريق بين الغث والسمين. طلاب الدراسات العليا المتركزون في جامعات معينة وفي الغالب في تخصصات معينة يعرفون ما يريدون, يريدون الحصول على شهادة الدكتوراة دون جهد يذكر في ظل جهاز وزارة وحتى جامعات لا تشترط البحث الجاد في الغالب ولا حتى النزعة الأكاديمية لدى البعض الآخر. ليس هناك أسوأ من هذه الرسالة إلى الوسط الطلابي في المملكة, إذا قبلنا أن يأتي الأكاديمي من النافذة, فسيخرج الطالب من النافذة نفسها. ولعلنا نسير في طريق مصر, فبعد أن كان الأستاذ الجامعي في مصر عنوانا لشموخ مصر العلمي, أصبح الأستاذ المصري يخضع للامتحان قبل قبوله للتعليم في بعض الدول الخليجية طبقا لما ذكر وزير مصري سابق. أهمية تعليق الوزير السعودي تأتي في ظل هذه الخلفية ليصبح الأستاذ الجامعي لدينا محل ريبة في إخلاصه للمهنة الأكاديمية.
ليست هناك قدوة أفضل من أستاذ مخلص كفء, ولذلك فإن كفاءة الأستاذ الجامعي نقطة ارتكاز ليس في التعليم فقط وإنما في مدى كفاءة قيادات المجتمع. لذلك فإن حل الوزير المنتظر التقليدي من خلال تشكيل لجنة يعرف الجميع أنها في الغالب لم تشكل حتى الآن وإن شكلت ستأخذ سنوات, وسيكون أعضاؤها في الغالب من زملاء هؤلاء المستهدفين في هذه اللجنة. كان الأحرى أن يذهب الوزير ويعطي الطلاب توجيها إداريا وطنيا واضحا, فالموضوع أهم من تشكيل لجنة بعدما رأينا كيف تعمل اللجان الصغرى والكبرى. الحل دائما في تغليب الجودة على الكمية, فمن يقبل على اختيار السلك الأكاديمي كان ينتظر منه عشق التحدي العلمي والبحث من خلال إسهامه بشيء إلى العلم وليس الشهادة والطموح لمنصب. يفضل أن تنشر الوزارة علنا أسماء الأساتذة السعوديين الذين استطاعوا نشر أبحاث في دوريات عالمية متخصصة لنفتخر بهم جميعا وتشكل جهة ضغط على هؤلاء المقصرين ونرفع بالمستوى الأكاديمي.
لا تحتاج الوزارة إلى تشكيل لجنة لعمل 80 في المائة من مسؤوليتها, كل ما على الوزير أن يبتعد عن اللجان ويشرع في زيارة الجامعات والطلاب مع مزيد من المكاشفة والوضوح. إن التخفي وراء اللجان قد يشتري وقتا ويحمي الوزارة مؤقتا ولكنه يضر بالبلاد عموما. ليس عيبا أن نتخلص من المقصرين السعوديين ونستبدل بهم كفاءة عالمية, بل العيب أن نواصل تكريس القصور تحت اسم سعودة من النوع المفبرك. هناك العشرات من الأساتذة السعوديين الجادين ولكننا لا نساعدهم حينما نساوي بينهم وبين الأكثرية المقصرة وشبه المقصرة. لعل ذلك مخرج آخر للوزارة أن تشكل لجنة للتفريق بين المقصر وشبه المقصر. التنازل في جودة التعليم العالي يعد تقصيرا غير مبرر مهما كانت الظروف والأعذار.