علماء اللغة العربية ساهموا في جمودها

[email protected]

بداية العلاج الاعتراف بوجود الداء. ولو لم يقتنع المريض بأنه مريض أصلاً فكيف يا ترى سيستدل على العلاج؟
المسألة واضحة، رغم اعترافي بكثرة الذين لا يعترفون بالمرض: العربية في أزمة، تؤدي بها إلى القصور عن التعبير عن الإنسان المعاصر باحتياجاته الفنية، والتقنية، والفلسفية، والاقتصادية.
ربما ساهم علماء العربية أنفسهم في هذا الجمود حين رفضوا فكرة تطور "العربية"، فأوقفوا السماع على نهاية القرن الأول، واعتمدوا القياس فيما بعد ذلك، بحجة أن "العربية" دخلها الكثير من اللحن بعد القرن الأول. بداية أتساءل ما هي اللغة؟ أليست آلية التواصل بين البشر؟ أليست هذه الآلية تتطور تبعاً لتطور احتياج هؤلاء البشر؟ هل احتياجاتنا اليوم كما هي قبل ثلاثة عشر قرناً؟
إن رفض علماء النحو لتطور اللغة لهو دفن للغة في مجاهل التاريخ، فتصبح تعبر عن احتياجات من تحدثوها في ذلك العصر. ومن ذلك يخرج علينا من يخطئ التعبير الدارج، أو طقوس "قل ولا تقل" التي لا تتعدى كونها كبحاً لجماح التطور اللغوي، حتى أصبحت "العربية" أفضل اللغات تعبيراً عن احتياجات وموضوعات أصحاب القرون الأولى، غير أنها لا تصلح لحاجات سكان العصور الحديثة.
أدى ذلك لولادة اللغة الإعلامية الحديثة التي أصبحت في الحقيقة لغة ثانية، بحيث لو عرضت هذا المقال مثلاً على أهل القرون الأولى، مهما بلغ علمهم، فلن يستطيعوا فهم المراد منه، وكأنه كتب بلغة أجنبية، مع أنه كتب بلغة عربية، ولكنها لغة الصحافة الحديثة التي انتهجت بناءات تراكبية حديثة، ومفردات خاصة جعلتها تختلف عن لغة الماضي.
لم يدفع علماء النحو إلى محاولة "تجميد" "العربية" إلا خوفهم على النصوص المقدسة من تطور اللغة المستمر، وهذا في رأيي خوف غير مبرر، إذ إن قدسنة اللغة لا ينفي تطورها بأشكال أخرى وإن كانت غير رسمية، حتى أصبحت بعض (وإن شئت قل الكثير) من النصوص القديمة تحتاج إلى شرح وقاموس لفك رموزها ومعانيها للقارئ الحديث. ثم إن القرآن الكريم نفسه حين نزل، لم ينزل بلغة العرب القديمة "الفصيحة" بل نزل باللغة التي كان أهل الجزيرة يتحدثونها، فجاءت أحرفه السبعة لتضع احتياجات الناس فوق النص، فهو الذي يتتبع احتياجاتهم، لا أن يبنوا تصورهم للعالم من خلال تراكيب لغوية. بل جاءت بعض التعابير باللغة العربية الشائعة "الشعبية" في مكة، مثل العطف على المجرور دون تكرار حرف الجر، أو استبدال حرف جر مكان آخر (لأصلبنكم في جذوع النخل) وليس (على)، واختيار الكلمات الأعجمية، والمفردات المناطقية بلهجة غير أهل مكة (سكين)، وغير ذلك كثير. إذاً فلماذا نخشى اليوم على القرآن من تطور اللغة، وهو المحفوظ بحفظ الله؟ ولو صحت دعوى تأثره بتطور اللغة، لأثر ذلك في مسلمي اليوم الذين لا يمثل العرب منهم إلا أقلية، فبقوا على إسلامهم مع اختلاف لغاتهم.
الخطوة الشجاعة للنحاة هي تبني البناءات الجديدة، وليس التطوير على مستوى المفردة بإدخال (جوال)، أو ثلاجة، أو (ناسوخ – فاكس) أو غيرها، بل على مستوى تراكيب الجمل. فالعطف قبل تمام الإضافة كان غير مقبول فيما مضى نظراً لسهولة الجمل وقلة ما يتصل بها من موصولات، أما اليوم فمن الصعب الاستمرار في هذا النسق اللغوي. وكذلك وجوب إدخال نظام السوابق واللواحق كما فعل علماء اللاتينية، وهو ما حاول تقديمه المترجم كمال أبو ديب في ترجمته المجددة لاستشراق إدوارد سعيد، فاستخدم السوابق كاستخدام اللاتينية مثل (الغيـ ـ تجانسية، والبعـ ـ قومية) لغير التجانسية وما بعد القومية، وقد يسهل التعبير عن هاتين الكلمتين دون الحاجة إلى السوابق ولكنه إدخال النظام الذي سيفيد فيما يأتي من مصطلحات. ودمج أبو ديب كذلك الكلمات مثل الاجتماعية والاقتصادية كما في اللاتينية لتصبح الاجتصادية، والاجسياسية (للاجتماعية والسياسية)، ونحو ذلك.
إن جمود اللغة يأخذ منحى خطيراً حين يؤدلج، ويضفي على اللغة صفة القداسة، فيصبح كل من يدعو لتطويرها فكأنما يدعو للخروج على كل ما هو مقدس، وهذه حيلة النحاة لشرعنة علم دنيوي يدخله التطوير والتغيير كما يدخل غيره. وقبل ذلك أضيفت صفة القداسة على اللغة اللاتينية حتى كان القساوسة يحرمون الدعاء بغيرها، فجاء عصر النهضة لإلغاء هذه القدسية المزعومة على لغة من لغات الأرض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي