فيتنام.. حين يستيقظ المارد
يعرف الكثير فيتنام من خلال تاريخ تدخل الولايات المتحدة فيها بين عامي 1959 و1975، واستعار كثير من دول العالم الثالث هذا الحادث المفاجئ حين يهزم جيش صغير جيشاً ضخماً مسلحاً بأحدث تقنيات العلم والسياسة والاقتصاد. ولكن تختفي بعد ذلك فيتنام على مساحة صغيرة في جنوب شرقي آسيا المكتظ بالدويلات والسياسات المتداخلة.
ما يدعوني للكتابة عن فيتنام اليوم هو أن هذا المارد الصغير استيقظ، وبدأ مرة أخرى يهدد العمالقة وخاصة في مجالات التعليم، والاقتصاد. فقد نما معدل دخل الفرد من 430 دولاراً أمريكياً في عام 1980 إلى 3503 دولارات أمريكية في عام 2007، وهي قفزة ولا شك توجب الوقوف والتأمل في هذا المثال الصغير الذي يربك حسابات العالم مرة أخرى، ويكتب درساً آخر في مادة الاقتصاد بعد الدرس الذي كتب في مادة التاريخ.
بعد الحرب الأمريكية ـ الفيتنامية، خرجت فيتنام (شأنها شأن كل دولة تخرج من حرب، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها) منهكة مضطربة، مهزوزة الاقتصاد، معتمدة بشكل كبير على المساعدات السوفيتية. ولكن في عام 1986 تبنت الحكومة الفيتنامية تغييرات شاملة في الاقتصاد تمثلت في تحرير الاقتصاد، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، مما أسهم بشكل كبير في نهضة الاقتصاد الفيتنامي، ليصبح اليوم واحداً من أسرع اقتصادات العالم نمواً. وفي تصنيف لبنك الاستثمار جولدمان ساكس عام 2005 فإن اقتصاد فيتنام جاء ضمن الاقتصادات الـ 11 القادمة والمتميزة ذات المستقبل الواعد للاستثمار والنمو. وبلغ معدل النمو في فيتنام عام 2006 8.17 في المائة، وهو ثاني أسرع نمو بين دول شرقي آسيا، بعد الصين. وأتاح لها دخولها منظمة التجارة العالمية في عام 2006 مزيداً من النمو والثبات، ليضعها صندوق النقد الدولي في عام 2007 في المرتبة الـ 37 بين دول العالم من حيث معدل الناتج المحلي، متقدمة على سويسرا، والإمارات العربية المتحدة، وسنغافورة والنرويج والدنمارك، ومتجاوزة معدل الناتج المحلي للدول العربية التالية مجتمعة: ليبيا، والكويت، وعمان، وقطر، والأردن، واليمن.
وفي مجال التعليم انتهجت فيتنام سياسات تطويرية أسهمت في وضعها في مصاف الدول ذات التعليم المتنامي، واكتسبت الجامعات الفيتنامية قوة واحتلت مراكز مرموقة بين الجامعات الآسيوية، وهي الآن تغازل التصنيفات العالمية. وانتهجت فيتنام سياسة عولمة التعليم، فارتبطت علمياً بكثير من الجامعات العالمية سواء عن طريق الارتباطات البحثية التعليمية، أو الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع التعليم العالي الفيتنامي، كما عززت خطط الحكومة الفيتنامية من قدرات التعليم العالي في المنافسة العالمية من خلال خطط عشرية تطويرية، انطلقت ثانيتها عام 2001 وتهدف إلى تنويع وعولمة التعليم الفيتنامي بشكل عام، والتعليم العالي بشكل خاص، وتخريج طاقات متدربة تدريباً جيداً للعمل في السوق المحلي والعالمي.
لكل ذلك فإنه ينبغي دراسة النموذج الفيتنامي لمعرفة كيف يمكن لدولة خرجت منهكة من حرب طاحنة أن تطور من نظاميها الاقتصادي والتعليمي في مدة وجيزة، ويبدو أنها في السنوات العشر المقبلة ستظهر بشكل جلي بين دول المنطقة كدولة إقليمية ناهضة، وهي فيما يبدو تسير على خطى اليابان (رغم اختلاف النظامين السياسي والاجتماعي في كلا البلدين) في الصعود من أسفل الهرم إلى أعلاه، وكبح جماح القوى المحيطة التي تحاول أن تعصف بها.