أبو بسام .. ومدينة الأحلام

[email protected]

.. المهندس حسن البدر، المدير التنفيذي لشركتنا عاد من مدينة الملك عبدالله الصناعية في زيارة عمل، ولما التقاني صرخ في وجهي وعيناه الزرقاوان كادان تقفزا من محجريهما، وابتسامة تملأ وجهه النضر، وقال: لتوي عدت من أرض الأحلام.. إنها حقيقية، حقيقية وكأنه يريد التأكيد بكل حصيلته فأتبع بالإنجليزية: It is real، ولو كان يعرف لغة قبيلة "الزولو" الإفريقية لنطق بها.. ولكن قبل أن أحدثك عن أرض الأحلام التي عاد منها المهندس حسن، دعني أخبرك عن الرجل ذاته..
حسن البدر مهندس معتـّق، من الأفواج الهندسية المبكرة في البلاد، وأسهم في مشاريع أساسية في شركة أرامكو، قبل أن يخرج منها ليتفرغ لعشق متأصل، وهو صناعة الاسمنت، فأسهم في بناء مصنع أسمنت شهير بالبلاد ورأسه لسنوات، ثم تفرغ لأعمال الأسمنت مع كبار تجار الأسمنت في البلاد وخارجها، وارتبط بشبكةٍ عالمية من شخصيات الأسمنت والكلنكر في العالم.. وأسهم في إدارة مجمع صناعي كرئيس تنفيذي في المنطقة الغربية، ثم عاد للأسمنت حبه الدائم..
ورأى المهندس حسن نمو المناطق الصناعية والموانئ، في العالم وفي المناطق المجاورة، وكان سؤالٌ يشغله كرجل وطني حتى العظم: "أليس نحن أجدر؟!" بل إن الذي وثـّق علاقتي بالمهندس حسن شغفي أنا بالموانئ وتابع كتاباتي عنها حول استغلال موقعنا الفريد في الأرض كمفصل لبوابات القارات القديمة بامتياز، غير فضائلنا الاقتصادية الكبرى، وكانت دائما محور نقاشاتنا، وكأننا حين نجتمع نعزف ذات السوناتا في منظومة سيمفونية للتطوير، أو ننشد أبياتا من قصيدة واحدة ترى البلاد السعودية فعلا .. لا غناء وشعرا فقط، على هامة السحب..
حين استعرض المهندس حسن (ولنسمه بلقبه "أبو بسام") الكتيبات التي أحضرها من مدينة الملك الصناعية قال : حلمنا يتحقق يا نجيب، إنه حقيقي ملموس ( ولن أضيف الكلمات الأجنبية التي يؤكد بها حديثه كعادته حين يصر على التأكيد بلغته العربية الراقية والإنجليزية الممتهنة) .. هل تتذكر ما قلت عن تطوير الموانئ في مقالاتك؟ هل تتذكر المفصل لبوابات القارات؟ هل تتذكر مصانع منثورة كاللآلئ في العقد المنظوم بساحات المناطق الحرة؟ هل تتذكر ما قلت عن قاعدة صناعية تلك التي أسميتها متحركة ومرنة ومتجاوبة مع الموج العالمي الذي يمتد وينحسر؟ كلها هناك، صحيح لم تنتهِ، لكني وقفتُ على أرض مدفونة من البحر، ورأيت المنطقة تتشكل أمامي كما في المنظور الهندسي الأخير.. كنت أقف ليس فقط على أرض الأحلام، ولكني كنت أرى التاريخَ أمامي تحت الصنع.
"كم من مصنعٍ يدور في رأس أخيك هشام؟" (والمذكور مولع بالصناعات الخفيفة من صغره، وهو يملك موهبة وطاقة بناء المصانع بنفسه من الطوب إلى أن يدور حزام الإنتاج، بموهبةٍ سلبها منا جميعا فصرت أنا أعمى فنيا وصناعيا، وقد أسفنا أنه تقاعد مبكرا جدا وفقدناه في الإشراف على الصناعة ليمارس التطوير العقاري.. ولكن حماسة المهندس بدر أعادته كمستشارٍ صناعي مدفوع الساعات للشركة، رغم كونه أحد الملاك!) ذاك السؤال من أبي بسام، لم يكن عاديا، لأنه سؤال تأكيدي وتحفيزي، فصار يرفع الخرائط أمامي ويشرح، ويسهب عن سهولة ومرونة الأنظمة في المدينة تلك المتعلقة بإنشاء المصانع، وبناء المستودعات، والوفورات البشرية، ثم لمعت عيناه البحريتان بأبوةٍ حانية وهو يثني بفخر على " الأولاد والبنات السعوديات" العاملين الآن في الطاقم التسويقي والإداري والعلاقات في المدينة: "إنهم من أفضل من رأيت في المهنية والذكاء والكياسة والنشاط.. والله، والله.. "، حتى كدت أتصور كأني أنكرُ ذلك وهو يثبته.. إن البيئة الصحيحة للعمل تسهم أيضا في خلق طاقاتٍ بشريةٍ جيدة، كما أن التعليم الجيد يجهز خامة بشرية جيدة تصقلها فيما بعد، كإكمالٍ عضوي أساسي، البيئة العملية الصحية والصحيحة.. ولم يكن أبو بسام في حاجة للتأكيد حلفا، فأنا أقابل كل يوم شبابا سعوديين كلما تراهم تتنفس الصعداء، وتؤمن بثباتٍ أن هذه الأمة ستلقى الخيرَ العميم، وليس علينا إلا أن نتعهد هذه الشبيبة بالرعاية التعليمية والتربوية والإعدادية، وإفهامهم منطق الحياة العملي، حيث الإنسان صار في سوق كبيرة سلعة لا يقبل عليها المقبلون إلا اطرادا مع درجات جودتها.. "الأولاد والبنات" الذي رآهم أبو بسام بعينيه، لم يكن فقط بشعوره كسعودي، بل هو يؤكد أنهم يصلحون للتفوق حتى في "هونج كونج"..
ثم فتح لي ملفات المنطقة الصناعية، ثم التعليمية وهنا نظر إليّ ببسمته المشرقة التي تفصح عما سيقول قبل الكلام: "هذه ستكون مثل جامعات ييل وهارفارد و الـ "إم أي تي" عندنا"، ثم حك شعر رأسه الخلفي الذي يتشابك بالشعرات البيضاء الحرة، وقال بصوت خفيض لكني سمعته.. " أو أحسن!". ثم راح يشرح لي عن تبعات السياحة ومنطق الإسكان العصري الجديد.. و.. و.. وفيها كثير من التأكيد والإعادة وإدخال اللغتين..
وأوقفته.. لأتأكد فقط من شيءٍ دقيق: إن كان ما زال يعمل معنا، أم هو انتقل ممثلا لمدينة الملك عبدالله الصناعية؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي