كثيرة هي الأعمال التي نقوم بها على المستوى الشخصي والمؤسسي كمسلمات دون مراجعة وتفكير فيما إذا كانت هذه السلوكيات والتصرفات تنسجم مع واقع جديد وأوضاع تختلف عما اعتدناه. وما يثير الدهشة هو بعض الأنظمة والسلوكيات في المنظمات الحكومية التي تنم عن عدم الرغبة في التغيير والتطوير. فالكثير منها يتبع قاعدة "سكن تسلم" كما يقول النحويون. أي إبقاء الأشياء كما هي عليه تحسبا لعدم الوقوع في الخطأ أو عمل القليل والحدود الدنيا من المطلوب وعدم الاجتهاد في إعمال العقل والبحث عن حلول إبداعية. من ضمن الممارسات المحيرة، التي يصعب فهمها والإصرار على الاستمرار في تطبيقها الطابور الصباحي في المدارس. لقد مضت السنون ونحن مازلنا نمارس الأساليب نفسها بالرتابة والجمود نفسيهما مع تبدل الأوضاع وتسارع وقع الحياة وظهور مفاهيم تربوية تحاكي الواقع وتستوعبه وتعد الطلاب لمواجهة هذه التغيرات الكبيرة فكريا ونفسيا وسلوكيا. هذه المفاهيم الجديدة تعتمد على الحرية المنضبطة والحركة والنشاط والتعلم بالممارسة والتحليل والنقاش وفهم المتغيرات والمقارنة والتفكير النقدي. إن ما كان يصلح بالأمس لا يمكن أن يصلح لعالم اليوم فهناك الكثير من المعطيات الجديدة ومع هذا نبقي الأشياء على ما هي عليه دون محاولة للتوقف ولو لبرهة والتساؤل: ما جدوى إيقاف الطلاب في العراء؟! وإذا كان الجواب من أجل تعليمهم النظام والانضباط فإن ذلك مدعاة للسخرية لأن النظام كل متكامل لا يستقطع ويطبق في حين ويترك أحايين أو أن يؤكد جانبا ويغفل عن جوانب. هناك بلا شك تفكير سقيم في التمسك بالشكليات أيما تمسك والتراخي في الأمور الجوهرية ذات الصلة بالعملية التعليمية. على سبيل المثال، بعض المباني المستأجرة تصلح أن تكون أي شيء إلا أن تكون مدرسة! وبالتالي كيف يمكن تعليم الطالب النظام ولم يُلتزم بالحد الأدنى من المعايير التربوية في جميع جوانب العملية التعليمية؟! قد يكون من المفارقات العجيبة أن يُطلب من الطلاب حضور الطابور الصباحي بينما هناك خلل في جوانب كثيرة مثل عدم التزام بعض المدرسين الحضور في الوقت أو أداء مهامهم على أكمل وجه، والأدهى أن يتصرف أحدهم في الفصل بما لا يليق من الألفاظ النابية أو أن يلوح بعصاه تهديدا وتخويفا ليشوه بذلك صورة التعلم الجميلة في أذهان الطلاب وينجح في جعلهم يكرهون التعلم ليكون همهم الأول الحصول على الدرجات وليس توسيع مداركهم والتحصيل المعرفي. لقد اختزل مفهوم النظام في الوقوف الشكلي دون مقصد ومعنى في الطابور الكئيب. طابور لا يعترف بتقلبات الجو مع أن مناخ المملكة قاري شديد الحرارة صيفا، شديد البرودة شتاء، ومع هذا فإن هناك إصرارا على إيقاف الأطفال في هذه الأجواء القاسية ليكون أقرب ما يكون لعقاب جماعي. إنه بلا شك مضيعة للوقت والجهد يوجه رسالة خاطئة للطلاب في أن النظام أمر يجلب التعاسة والملل ولا يحقق أية منفعة! كيف لا والنظام لا يراعي تقلبات الطقس وما يجلبه من مشاكل صحية تتعلق بالحساسية التي يعانيها بعض الطلاب، خاصة في مرحلتي الابتدائية والمتوسطة.
أحد التفسيرات للاستمرار في النهج ذاته هو التطبيق دون وعي ودون مراجعة لمقاصد الطابور، التي قد تكون انتفت أو استجدت أساليب جديدة تفيد في انتظام الطالب وتثقيفه بحب النظام واحترام القانون. إن الإصرار على الطابور الصباحي ينبئ عن مشكلة تتلخص في المناخ الإداري الذي لا يشجع التساؤل والتدبر والإبداع. ولذا فإن تعاسة الطابور تأتي من عدم قناعة الكثيرين من داخل المدرسة بجدواه وتحوله إلى روتين يومي ممل يجد فيه بعض المراقبين والأساتذة المتعة في ممارسة هوايتهم في توجيه الأوامر وممارسة السلطة التعسفية وقهر هؤلاء الصغار ليصل في بعض الأحيان إلى حد جرح مشاعرهم والتلفظ عليهم بألفاظ تخرج عن حدود الخلق الإسلامي والأخلاق المهنية التربوية واللياقة العامة. وقد لا يكون من باب المبالغة في أن الصراخ والزعيق يُسمع من خارج أسوار المدرسة على مسافة كبيرة وكأنما الطلاب فقدوا حاسة السمع أو التفكير السوي. إنه اتصال في اتجاه واحد ينحر فيه التعلم والتربية نحرا أمام الطلاب كل طالع شمس. ولذا لم يكن مستغربا أن يكره الطلاب ليس فقط الحضور لهذا الطابور الممل عديم المعنى بل حتى المدرسة. ذلك أن الطلاب منزوعي الإرادة لا حول لهم ولا قوة فيما يجري حولهم فلا يتملكون أمرهم، يؤمرون فينصاعون دون أن يكون لهم حق الكلام وإبداء الرأي أو المناقشة ومن يجرؤ على ذلك يحاسب حسابا عسيرا، خاصة إذا كان ليس من الطلبة المميزين. إذ إن المشكلة تكمن في عدم التفريق بين المستوى الدراسي واحترام آدمية الطالب وتقديره كإنسان له حقوق لا يمكن تجاوزها مهما كان السبب حتى وإن كان قد أخفق في الدراسة. إن الطالب الذي يتولد عنده إحساس بغربة المكان والوحشة لا يمكن أن يستوعب الأنظمة بشكل إيجابي بل يتولد لديه عقدة من الأنظمة يتحين الفرصة لمخالفتها تعبيرا عن عدم قناعته بها. وهذا يفسر تغيب الطلاب عن الطابور الصباحي أو اللا مبالاة فيما يجري حولهم في الطابور أو حتى التصرف بسخرية، خاصة أن بعض من يراقبونهم لا يتعاملون معهم بأسلوب تربوي يحترم ذواتهم وبالتالي يبادلونهم الأسلوب نفسه. إنها حقا مأساة أن تتواجد في مكان تقضي فيه وقتا طويلا ولكن لا تتملكه ولا تحبه! فكل الإشارات والرسائل التي تصل للطالب تفيد أنه غير مرحب به وأن المدرسة الحكومية بحكم مجانيتها تمتن عليه إن وفرت له مقعدا في ظل ازدحام الفصول واكتظاظها. فأنت أيها الطالب تزيد من معاناة المدرسة وبالتالي يتم التعامل معه كعبء يثقل كاهلها في فصول يفوق فيه عدد الطلاب حد الاستيعاب. إن النظام الإداري الذي لا يمنح إدارة المدرسة الاستقلالية ومحاسبتها على النتائج يدفع نحو التعامل مع الطالب من منطلق بيروقراطي صرف في أن المدرسة لها اليد العليا وأن على الطالب أن يقبل هذه الهبة وهو صاغر! وهذه مشكلة متجذرة في جميع الأجهزة الحكومية تتمحور في النظرة الدونية للمراجعين، إلا أنها في المؤسسات التعليمية أدهى وأمر، إذ إنها تربي النشء على الانسحاب والاتكالية وعدم احترام الذات ومخالفة القوانين. إن التصرفات الغريبة لبعض الشباب في الأماكن العامة هي نتاج لهذه الثقافة. ثقافة يتم فيها اختزال مفهوم التربية والتعليم في التوجيه المباشر والوعظ والإرشاد ولا يُنتبه إلى تصرفات وسلوكيات المدرسين داخل المدرسة التي ربما خالف البعض أنظمتها وأمام الطلاب! فيفتقد الطلاب القدوة التي هي أساس وجوهر التعليم.
إن كثيرا من الأنظمة خاصة في مجال التربية والتعليم صيغت أو تم اقتباسها من خارج المملكة ومن دول تعاني تفشي البيروقراطية والتعقيدات الروتينية وبطئا في الأداء والحشو القانوني دون ارتباط لواقع الحال وما يحقق الغرض ويجلب الفائدة. وبلا شك أن هذه الأنظمة تمثل نظرة وفلسفة المنظرين في تلك الدول والتي لا تتفق مع قيمنا وتقاليدنا الاجتماعية وثقافتنا المبنية على احترام الذات وتقدير الآخرين، إذ إن الطابور الصباحي يمثل قمة الإكراه والقسر للأطفال على الاصطفاف في طابور في جو حار أو بارد دون أن يعلموا لذلك معنى أو فائدة.
وإذا كان القصد من الطابور هو تنظيم دخول الطلاب إلى الفصول فلماذا لا يكون هناك طابور عند انتهاء الفسح؟! أما إذا كان القصد هو القيام بالتمارين الرياضية أو سماع الإذاعة المدرسية أو إعلانات إدارة المدرسة فذلك كله يمكن القيام به داخل الفصل قبل بداية الدوام بدقائق.
أعتقد أننا تجاوزنا مرحلة عمل الأشياء لأننا اعتدنا عملها دون تفكير ووعي أو على الأقل أتمنى أننا قاربنا تجاوزها، خاصة في المؤسسات التربوية التي تسعى إلى تربية النشء على عمل الأشياء باقتناع وبعد تفكير. إن تغيير اسم وزارة المعارف إلى وزارة التربية والتعليم يعطي مدلولا واضحا لأهمية التربية وتقويم السلوك وأن له أولوية على التعليم. وإذا كان الأمر كذلك فإنني أناشد وكثير مثلي من أولياء الأمور وزير التربية والتعليم إلغاء الطابور الصباحي والاكتفاء بحضور الطلاب والطالبات إلى الفصل قبل بداية الحصة الأولى بعشر دقائق.
