جدلية الصدق والكذب
بقدر ما يعد الكذب ضارا وحراماً بشكل عام، بقدر ما يعد واجباً في بعض المناسبات. فالأساس هو الصدق، ولكن الكذب ينفع في بعض المواقف؛ بأفضل من الصدق.
وهذا تناقض في الظاهر، وتحريض على ممارسة موقف لا أخلاقي ، ولكن إنقاذ إنسان بريء من يد ظالم، أو إطفاء غضب قاتل في ساعة ضاع فيها العقل لتهدئة الموقف، أو إصلاح بين الناس في وقت استطار فيه شرر الشر، واحتدمت نوازع البغضاء والعنف يصبح الكذب فيه مقبولاً.
وجاء في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل في موقف خطر عندما اعترض طريقهم أناس فسألوهم عن قبيلتهم : ممن القوم؟ فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم نحن من بني ماء.
وتعجب الصحابي ليسأل الرسول ص لاحقاً ولكننا لسنا من بني ماء بل من قريش؟ فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: ألسنا من ماء؟ أو لم يخلق الله الإنسان من سلالة من ماء مهين.
وفي هذا الموضوع يتفق الإمام الغزالي مع إفلاطون في قاعدة ذهبية؛ لتحرير مناط الخلاف، فرأي الإمام الغزالي أن الكلام وسيلة إلى مقصد من المقاصد، وكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب معاً فالكذب فيه قول واحد حرام، ولكن إذا كان الوصول إلى هذا المقصد المحمود مغلق الباب افتراضاً، ولا يمكن الوصول إليه إلا بالكذب، فهو على وجهين؛ مباح إن كان المقصود مباحاً، وقد ينقلب إلى واجب، إن كان الغرض الذي يجب أن نصل إليه واجباً، عملاً بالقاعدة الفقهية، مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ذلك ما فعلت الراهبة في نجاة جان فالجان بالكذب على الشرطة في قصة البؤساء بعد أن شعرت أن المحقق جافير يريد أن يطبق نص القانون دون روحه باعتقال أنبل الناس للشبهة فقالت إنه ليس هنا
وهذا تفسير جميل لميكانيكية الحديث وآلية الكذب والصدق.
وهنا حافة خطيرة قد يقع الإنسان فيها في حفرة من حفر النار إن استسهل الأمر.
وعلى العكس فهناك قوم من الحرفيين الذين يتمسكوا بظاهر الكلمات إلى درجة فقدان المعاني المختبئة خلف الكلمات.
وفي المقابل فإن افلاطون قبل 2400 سنة انتبه إلى جدلية الصدق والكذب فرأى أن الكذب يمكن أن ينقلب من اللاأخلاقية إلى المباح ضمن وسط وشروط محددة؛ فهو يرى أن (الكذب اللفظي نافع في بعض الأحوال وليس بغيضاً، ففي الحالة التي يكون فيها أصدقاؤنا وهم في ثورة جنونية أو على وشك القيام بعمل ضار، يكون الكذب نافعاً، وكأنه نوع من الدواء والوقاية، وكذلك الشأن فيما يتعلق بالقصص الخرافية؛ فلأننا لا نعرف الحقيقة عن العصور السحيقة في القدم، نصور الكذب في أقرب صورة ممكنة للصدق).
وكتاب (كليلة ودمنة) كله من هذا الكذب المباح؛ فلا يعقل أن يتكلم الغيلم! وتتحدث الحية! وينطق الببر بالحكم! ويناقش الهدهد في محاكمة صارمة أسباب غيابه! أو تصبح الحمامة المطوقة شاعرة فصيحة؟
ولكنه الكلام يقصد به حكمة بعيدة، للفت النظر، وإنطاق البهائم والطير حينما يعجز بنو البشر في بعض أوقات عصور الظلمات السياسية عن النطق.
وتحت هذا الباب تدخل أيضاً النكت أو المزاح البريء ؛ فالكذب لا يرخص ولو كان المرء مازحاً، لما فيه من هز الأعصاب وتنكيد النفس، ولكن جو النكتة يوحي أنه كذب وليس بالكذب.
ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لامرأة وهو يصف زوجها أليس الذي في عينه بياض؟ فاستنكرت واعترضت ؟ لأن المعنى الدارج أن بياض العين هو مرض (الساد) عندما تتكثف القرنية ويعجز المرء عن الإبصار، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ردها بسرعة، في جو مرح وهل يوجد أحد وليس في عينه بياض؟!