لكي لا تكون المسلمات الاجتماعية مسلمات اقتصادية

[email protected]

هناك فرق كبير بين المسلمات الثقافية الاجتماعية وبين المسلمات الاقتصادية. فالأولى تتطور مع تطور ملاحظات الأفراد لارتباط ظاهرة ما (الحوادث مثلاً) بمسبب ما (السرعة الزائدة). أما الأخرى – المسلمات الاقتصادية – فلا يمكن الجزم بها إلا من خلال البحث والتدقيق العلمي سواء من خلال إثبات رياضي لعلاقة اقتصادية ما، أو من خلال استخدام الاستدلال الإحصائي للعلاقة بين المتغيرات. لذلك ينحى التحليل الاقتصادي للظواهر منحيين مختلفين، الأول يطلق عليه Positive Economics والثاني يعرف أنه Normative Economics . والمفهوم الاقتصادي الأول - Positive Economics – يعتمد على الإثبات العلمي ويخلو من التقدير الشخصي للأفراد. فالقول إن زيادة السكان – في حال ثبات العوامل الأخرى – تسبب زيادة في أسعار الإيجارات، هو قول يتعلق بالـ Positive Economics. أما المفهوم الثاني – Normative Economics – فيتعلق بالنظرة الشخصية للاقتصادي لما يجب أن تكون عليه الأشياء، أو بمعنى أدق وأقرب للواقع نظرة الاقتصادي الشخصية لما يجب أن تكون عليه السياسة الاقتصادية. لذلك لا تخلو جملة من الجمل المتعلقة بالمفهوم الأخير من كلمة (يجب) أو (من الأفضل) أو (من الأجدى) مما يوحي بالرؤية الشخصية لمقترح السياسة الاقتصادية، لا ما تقول به النظرية الاقتصادية. ومثال ذلك ما يدور حالياً في أروقة الصحافة والإعلام الاقتصادي حول سياسة الصرف للعملات الخليجية الواجب اتباعها، حيث لا تخرج عن كونها آراء تعبر عن التقدير الشخصي للاقتصاديين الذين قدموها ولا تعني بالضرورة أنها السياسة الاقتصادية الأجدى، لأنها لم تخضع بعد للاختبار والتجربة. ومع ذلك فالرأي الشخصي للاقتصادي يجب ألا يكون متناقضاً مع أساسيات النظرية الاقتصادية المثبتة علمياً إلا في حالة واحدة فقط وهي قدرته على برهنة بطلانها.
لذلك فإن الكثير من العلاقات بين المتغيرات الاقتصادية تتسم بأنها بديهية للكثير من الأشخاص مما يجعلهم يقدمونها وكأنها نظرية علمية مثبتة لا جدال فيها. بينما لا تعدو كونها رأيا شخصيا عاما تجاه سياسة اقتصادية معينة يتطلب إثبات صحتها إخضاعها لأدوات التقييم سواء عن طريق التجربة العملية أو بطريق الاستدلال الإحصائي. ومن الكتب الجميلة والمبسطة من حيث لغتها الاقتصادية والتي تحدثت عن هذه النقطة كتاب Freakonomics لكل من ستيفين ليفيت من جامعة شيكاغو وستيفين دونبير من صحيفة "النيويورك تايمز". والأول أستاذ جامعي حاز على جائزة أفضل اقتصادي عمره يقل عن 40 عاماً ومتخصص في كل ما لا يلقي له الاقتصاديون بالاً والتي قد يبدو لبعضهم أنها مواضيع تافهة للتفكير والبحث فيها. ومن أكثر التساؤلات التي أعجبتني في هذا الكتاب - والتي توضح بجلاء أهمية إخضاع المسلمات الاجتماعية للاختبار والتحقق – هو لماذا يعيش مروجو المخدرات في بيوت أمهاتهم. والمعروف والبديهي (مسلم به اجتماعيا) أن مروجي المخدرات في أمريكا يعدون من أكثر الناس ثراءً، ومع ذلك فقد استطاع ستيفين ليفيت إثبات خلاف ذلك. والسبب الرئيسي الذي أدى به إلى اكتشاف ذلك حصوله وعن طريق الصدفة على دفاتر الحسابات الخاصة بإحدى عصابات المخدرات في مدينة شيكاغو عن طريق صديق عاش تجربة حقيقية مع هذه العصابة كمتطلب لإكماله درجة الدكتوراه في علم الاجتماع. دفاتر الحسابات تلك وفرت كما هائلاً من المعلومات التي مكنت ستيف من إثراء ما سمي بعد ذلك اقتصاديات ترويج المخدرات. إذ أظهرت هذه الدفاتر وبوضوح تام كيف أن عصابات المخدرات تتميز بتنظيم يشابه إلى حد ما التنظيم الذي تتميز به الشركات الكبرى وأن مروجي المخدرات الذين يمثلون الصف الأمامي لهذه العصابات يعيشون على الكفاف بسبب وجود عرض كبير من هؤلاء بينما يحوز أصحاب المستويات العليا في العصابة على النصيب الأكبر من الموارد لدرجة أن بعض المروجين يعملون مع العصابة لفترة من الزمن لتوفر له الحماية فقط وعلى أمل الترقي ليسجل اسمه في سجل الرواتب الخاص بالعصابة.
من البديهيات الأخرى التي يسبر أغوارها الكاتب هي العلاقة بين مستوى التمويل للحملات الانتخابية وفوز المرشح الانتخابي. ومن المفاجئ أن يثبت التحليل الإحصائي الدقيق أن السبب الرئيسي في فوز المرشح ليس كما يظنه الكثيرون وهو مستوى التمويل لحملته الانتخابية، ولكنه يعود بالدرجة الأولى إلى جاذبية شخصية المرشح. فلو قدم أكبر تمويل لمرشح انتخابي لا يتمتع بصفات الجاذبية لدى الناخبين فلن يكون ذلك كافياً لضمان نجاحه في الانتخابات. والكتاب يعرض أمثلة أخرى لبعض المسلمات الاجتماعية والتي تثبت الإحصاءات والدراسات عدم صحتها، مما يطرح سؤالا مهما يتعلق بالكثير من المسلمات التي نعيشها في مجتمعنا. فمثلاً هل التدخين سبب رئيسي لأمراض القلب؟ هل السرعة هي السبب الرئيسي للحوادث أم عوامل أخرى غير ذلك؟ من الممكن أن تكون السرعة وسيلة لتجنب الحوادث أيضاً، أو من الممكن أن يكون عدم السرعة سبباً في وقوع الحادث. هل هناك تضخم في الأسعار أم أن هناك تضخما في الطلب على السلع والخدمات بسبب ارتفاع مستوى دخول الناس؟ بمعنى آخر ما هو اتجاه العلاقة السببية للتضخم؟ كل هذه التساؤلات تتطلب بيانات إحصائية تفصيلية لسبر أغوارها والتحقق من صحة كثير من المسلمات التي نعيشها كل يوم وتؤثر بشكل كبير في طريقة وضع السياسات الاقتصادية التي توجه حياتنا بشكل يومي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي