هل هذا يعنى أن الرأي السائد اليوم هو رأي مجتمع الممارسين وأن طبيعة المجتمع الاستثماري السعودي تفرض هذا التوجه؟ للأسف فالإجابة عن هذا السؤال لا تقل صعوبة عن الإجابة عن السؤال الذي طرحته في منتصف هذه المقالة فلا توجد إجابات حاسمة لدي عن هذه النقطة لكن بالتأكيد ليس مجتمع الأكاديميين – لأنهم لا يعطون الإجابات الحاسمة التي يطلبها المجتمع الاستثماري لدينا.
ما التحليل؟ إنه يعني ببساطة أن نكتشف الظواهر والعناصر التي تشكلها، ونكتشف كذلك العلاقات بين العناصر. لكن التحليل لا يخلو من المخاطر، ومنها اعتقادنا أو قل افتراضنا وجود ظاهرة ما، ثم افتراضنا وجود محركات وأسباب لهذه الظاهرة. الخطر يكمن في أننا إذا فشلنا في تحديد الظاهرة نفسها فإن الفشل يصبح حتميا في اكتشاف عناصرها أو في فهم تلك العناصر وعلاقاتها. ومع ذلك فلا مفر من التحليل وخوض غمار بحاره على الرغم من مخاطره، ولم تقم العلوم كلها إلا على هذا الفن وأساليبه المختلفة.
في سوق الأسهم العديد من العلاقات المتشابكة التي نعتقد – أو نفترض – وجودها، لكن من الخطر أن نجزم بها فعلا ونتخذ قرارات على أساس هذا الجزم دونما تحديد لمستوى المخاطر المصاحبة واتخاذ إجراءات تحد من النتائج السلبية للقرارات الخاطئة. ومع ظهور القنوات الاقتصادية المتخصصة والصفحات الاقتصادية المتنوعة في صحفنا اليومية أطلت علينا ظاهرة الجزم بالعلاقات، فما إن يتغير اتجاه السوق أو السهم فإن الادعاءات – جزما بمسببات هذا السلوك - يتسابق عليها الجميع حتى يصبح الأمر وكأنه حقيقة لا جدال فيها، ويصبح من يتحدث خارج هذا الجزم أو التفسير عرضة للهجوم أو أن تحليله غير مرتكز على أسس مقبولة. فمثلا يصر الإعلام على أن سبب تحسن الأسعار يوم إعلان تخفيض الفائدة هو ذلك التخفيض، ولو حدث العكس فإن التفسير يكون بالعكس بمعنى أن السوق ترفض قرار التخفيض. وعليه فكل حركة في الأسعار يصاحبها خبر فإننا نقر فورا بتأثير الخبر. عندما ظهرت أزمة الائتمان العالمية في وقت شهدت السوق السعودية أسبوعا من الاتجاه الصاعد، فسر الاتجاه الصعودي للأسعار بأثر الأحداث العالمية وهناك من ادعى عودة الأموال المهاجرة. قبل إدراج "كيان" اتجهت الأسعار هبوطا ففسر بأثر إدراج "كيان"، بينما ارتفاع الأسعار مع سهم "ينساب" يجعل الجميع يدعي الأثر الجيد لذلك الإدراج. وهكذا نجد سعيا محموما لربط الخبر الأهم باتجاهات السوق ويبدو أن الإعلام الاقتصادي اليوم يحمل في جعبته جراءة التحليل في سباق نحو المصداقية وإقناع المشاهد بجودة الطرح. فهل أقول إن الرأي السائد يتأثر بشكل مباشر بالإعلام؟ ومن أصحاب الرأي السائد الذين يشكلون ثقافتنا الاستثمارية؟ هل تنطبق فلسفة "توماس كون" عن المجتمعات العلمية على ما يحدث لدينا في سوق الأسهم السعودية؟
إذا كنت سأستند في تفسيراتي إلى فلسفة "توماس كون" فإن الرأي السائد – Paradigm - في أدبيات وكتب الأسواق المالية والاستثمار هو أن الأسواق المالية بشكل عام توصف بأنها ضعيفة الكفاءة. ومعنى ذلك – بشكل عام أيضا - أنها لا تستطيع عكس المعلومات المتاحة بالصورة التي نتوقعها. هذا ما توصف به الأسواق المتطورة، فكيف بالأسواق الناشئة مثل السوق السعودية؟ هذا الرأي هو ما تتفق عليه المدارس العلمية أو – وفقا لكون – ما تتفق عليه المجتمعات العلمية. وهذا ما يقول به المختص الأكاديمي إذا قام بتحليل السوق السعودية لكنه ليس الرأي السائد لدينا والذي يصبغ الإعلام بكل أشكاله ومنها الإنترنت. وفي هذا أتذكر مقالة للدكتور سليمان السكران بعنوان "محللون يقودون السوق إلى الهاوية". ففي تلك المقالة يرفض الدكتور سليمان – أصنفه كمحلل أكاديمي – الرأي السائد في تحليل السوق السعودية والذي يملأ الساحة الإعلامية ويخالف ما استقرت عليه نظريات الاستثمار.
لكن إذا كان المجتمع الأكاديمي يواجه إقصاء الرأي أو أنه كما يقول "كون" الرأي الذي لا يقرأ، فإننا نواجه السؤال الأكبر حول ماهية المجتمع الذي يسيطر على الرأي السائد في ساحتنا الاستثمارية.
قبل إجابتي عن السؤال سانطلق من فرضية مفادها أن المجتمع السعودي لم يصل إلى مستويات المجتمع الواعي استثماريا – الوعي المتعلق بالقرار الاستثماري، تنوعه ومخاطره. لذلك فإن المجتمع يحب من يرسم له طريقا واضحة بمعنى أن تخبره بشكل صارم وموثوق ما السبب وما الإجراءات (على شكل خطوات مقننة) وماذا عليه أن يفعل. هذه الإجرائية دائما ما تتوافر لدى أهل الخبرة في السوق – أو مجتمع الممارسون إذا جاز التعبير. فمجتمع الممارسون غالبا ما يكون لديهم الجراءة على تحديد مسارات معينة بل تحديد الأثر والسبب بشكل قاطع وذلك بناء على خبراتهم التي تتوافر لهم والتي تعطيهم مصداقية كبيرة. بالتأكيد التجربة لها قوة أكبر من النظرية التي يعتمد عليها مجتمع الأكاديميين، لكن النظريات لم تشكل إلا بفعل التجمع الكبير من الخبرات. المشكلة دائما أنك لن تجد الإجابات القاطعة عند الأكاديميين، بينما ستجدها عند الآخرين. وليس ذلك عيبا لدى مجتمع الأكاديميين ولكنه تحفظ طبيعي نظرا لتعدد الخبرات النظرية في جميع أنواع الأسواق ونظرا لتنوع القراءات التاريخية التي تصبغ تفكيرهم، والتي من نتائجها أن الجزم بالآراء ونتائجها أمر غير محمود.
هل هذا يعنى أن الرأي السائد اليوم هو رأي مجتمع الممارسين وأن طبيعة المجتمع الاستثماري السعودي تفرض هذا التوجه؟ للأسف فالإجابة عن هذا السؤال لا تقل صعوبة عن الإجابة عن السؤال الذي طرحته في منتصف هذه المقالة فلا توجد إجابات حاسمة لدي عن هذه النقطة لكن بالتأكيد ليس مجتمع الأكاديميين – لأنهم لا يعطون الإجابات الحاسمة التي يطلبها المجتمع الاستثماري لدينا.