وصل إجمالي فوائض الميزانية العامّة خلال الفترة الوجيزة 2003 - 2007 إلى نحو 830 مليار ريال! كانت حصيلة فائض الإيرادات الفعلية للفترة البالغة 2.5 تريليون ريال، مقابل المصروفات الفعلية للفترة نفسها البالغة 1.7 تريليون ريال. شهد الاقتصاد السعودي خلال تلك الفترة الذهبية ارتفاعاً قياسياً في حجم جميع موارده دون استثناء، نجح معها في امتصاص جزءٍ من الإشكالات التي لازمته فترةً طويلة، لعل من أبرزها مشكلة الدين العام التي طالما أرّقته، خاصةً حينما وصل إلى مستوياتٍ قياسية فاقت 685.2 مليار ريال، شكّلت ما يقارب 97 في المائة من حجم الاقتصاد الكلي، استنزفتْ مستحقاته الأساسية وفاتورة فوائده حصصاً هائلة من المصروفات العامّة آنذاك. تسبب واقعٌ كهذا في مزاحمة بقية الاستحقاقات التنموية والتضييق عليها، هذا عدا أن شلَّ قدرة الميزانية والاقتصاد على مستوى تخصيص الأموال اللازمة لأجل الأغراض الاستثمارية، المتمثلة في الإنفاق على المشاريع التحتية العملاقة التي يصعب على القطاع الخاص تنفيذها منفرداً. شهدنا بعد ذلك انفراجاً ملموساًَ قفزت معه أرقام الميزانية إلى سقوفٍ قياسية غير مسبوقة، وتحولت أحوالها من عجزٍ مستمر إلى فائضٍ استمر حتى اليوم للسنة الخامسة على التوالي. نقف اليوم جميعاً "حكومة، قطاع خاص، أفراد" على منطقة محورية وأساسية، أعتقد جازماً أننا متى ما أدركنا جميعاً بصورةٍ حقيقية ومسؤولة، وبعيداً عن التحليق الغارق في الأحلام ومتجنبين التورّط في بحر التأجيل والتسويف، حجم الفرص المواتية في أيدينا وأيضاً التحديات الجسيمة التي تواجهنا اليوم، وما سيستجد مستقبلاً على طرفي المعادلة "الفرص والتحديات"، أؤكد أنه بالإمكان تحقيق قفزاتٍ حضارية ستنقل اقتصادنا من مرحلته الناشئة الممتد عمرها لأكثر من أربعة عقود، إلى مرحلةٍ أكثر نضجاً وحيوية تضعه في مراتب متقدمة بين بقية الاقتصادات المعاصرة.
لننظر معاً إلى المعطيات الاقتصادية والحيوية التي تحيط بنا اليوم! كيف يمكن تفسير استمرار مستويات البطالة والفقر على معدلاتها نفسها، بل شهدنا زيادةً فيها على نقيض ما أشرت إليه أعلاه؟! وكيف يمكن فهم عدم قدرة أغلب القطاعات الإنتاجية وتحديداً في القطاع العام على معالجة الترهل الوظيفي، الذي غدا أحد أثقل المعوقات البيروقراطية لدنيا المعطلة لحركة التنمية الشاملة والمستدامة؟! وقسْ على ذلك الكثير من الإشكالات والتناقضات المتمرسة في سلّة أوجاعنا جماعاتٍ وأفراداً، كعجز الكثير من الأفراد عن توفير مسكنٍ، أو معاناة سكان الأطراف في المناطق الحضرية مع مستوى الرعاية الصحية، ومستوى الخدمات العامّة، إلى بقية المتطلبات التنموية في المجالات المرتبطة بالشباب وكبار السن والنساء، هذا عدا المتطلبات الخاصة بالأيتام والأرامل والعاجزين عن تدبير قوت يومهم؟! أقولها صراحةً: أنا أقدّر الخطط التنموية التي تتحدث عن رفاهية الإنسان في العشرين والثلاثين عاماً المقبلة، بل وحتى القرن المقبل! ولكنني سأجلّها أكثر أنا وملايين الأفراد إذا هي أخذت واقع اليوم الراهن في الحسبان، ستكون محط مصداقية ودعمٍ وتعاونٍ كبيرين لا محدودة الحدود؛ متى ما أخذت في الحسبان أيتام اليوم ورجال المستقبل! ومتى ما أخذت في الحسبان أمهاتهم الأرامل الفقيرات من مصادر الدخل المنتظمة مقابل الهبات والصدقات التي لم تسمنهن ولا أبنائهن من الجوع والخوف والفقر والبقاء في العراء! ومتى ما أخذت في الحسبان كبار السن من المتقاعدين الذين أفنوا حياتهم لأجل هذا الوطن، وغداً سنكون بينهم إذا كُتبت لنا الحياة! متى ما أخذت في الحسبان هذا الشاب أو الفتاة الباحثين عن موطئ قدمٍ في المجتمع يكتسبون به الاحترام والتقدير والولاء للوطن قبل أن يكسبوا رواتب وظائفهم التي طال بهم الأمد عنها! متى أخذت في الحسبان مرضى وعجزة في أقاصي البلاد خلف جبالها وسهولها ووديانها أشقاهم وأشقى معيليهم الانتقال بهم الآلاف الكيلومترات لأجل تصوير أشعة أو أخذ حقنةٍ مسكنة! والكثير الكثير من الاعتبارات التي ستكون محط تقديرنا إن حدث جزءٌ من التركيز عليه، كذاك الذي استأثر به القادم في المستقبل بعد عقودٍ من السنوات!
الأمر ليس بالمعقد ولا بالمستحيل، فالألف ميلٍ أو المليون لن نصل إليه أبداً دون المرور بالميل الأول والثاني، ولعل الفرص المواتية اليوم في أيدينا تمنحنا بالتأكيد الحظ والنصيب في تحقيق ما نصبو إليه على مستوى التحديات الجسيمة التي ذكرنا من فيضها الحالات القليلة أعلاه. نحمد الله كثيراً أن وهبنا كل تلك الثروات، ونحمده أيضاً على ما ستجود به السنوات المقبلة من خيرٍ سيكون بإذن الله أكبر وأعظم. التفاتتنا اللازمة إلى الواقع المعاش، ومعالجة أوجه القصور الظاهرة فيه، هي في رأيي أول التحديات اللازم مواجهتها والاقتراب منها للقضاء عليها. والحلول أو الخيارات أو البدائل كثيرة جداً قياساً على ما نتمتع به اليوم من ثروات وفوائض، ولا ينقصنا من الأمر إلا أن نحسن النية والعمل، وأن نبدأ بإخلاصٍ في إزالة الأوجاع والآلام الرابضة في أحضان إنسان اليوم، بطالةً كانت أم فقراً، عجزاً أم مرضاً، ترملاً كان أم يتماً، وهكذا حتى يستطيع هذا الإنسان تسليم أمانته التي أؤتمن عليها إلى إنسان الغد. والله ولي التوفيق.
