Author

الحضارم عبروا بمزايين الإبل إلى (العولمة) (2 من 2)

|
[email protected] ردود فعل مقبولة تلقيتها على الجزء الأول من مقالي، ولكن كان أكثرها إثارة رسالة زميل يقول فيها: (إنه في الوقت الذي لم نزل فيه نعاني تأثير مسابقات شاعر المليون ومزايين الإبل، وما أفرزته من نشر العصبية والتعصب للقبيلة، يطل علينا بن محفوظ، لينزع فتيلاً جديداً في نار العصبية القبلية). شخصياً، توقعت أن أصابع اتهام العصبية ستنال مني ولا مفر منها، ورسالة الزميل استفزتني، لأنها تحاول اختزال ومقارنة تاريخ أمة في بعض الآثار السلبية لمسابقة شعبية، حتى وإن كانت تمس واحدة من أهم خصوصيات الإنسان العربي وهي الإبل. عموماً أنا لا أريد أن أدافع عن مسابقة مزايين الإبل أو أنتقدها، ولكن أعتقد أن ما حدث من ضجيج إعلامي حولها وصل إلى حد اللجوء إلى الرأي الديني والفتوى، يعبر عن مناخ صحي للرأي العام الذي نعيشه في السعودية، فكما قال أبناء القبائل كلمتهم في دعم هذه المسابقة، كذلك انتقدها أصحاب (الفكر التقدمي). وأياً كان القارئ من مؤيد أو معارض، سيستمر الجدل بين الطرفين، فلن تقف القبيلة في حذوها عن رمز الإبل، ولن يقبل (الفكر التقدمي) بأي تجاوز للخط الأحمر. وأنا وسطي بقولي إن علم الاجتماع أعمق، لأنها قوة ذاتية لها أثر عميق في تاريخ الشعوب، وأهم أدواتها هي (المساواة الطبقية)، وهي مفتاح التنمية البشرية، ولا يمكن حصرها في مفهوم اجتماعي ضيق، لذلك فإن محور اهتمامي في المقال هو الحديث عن مجتمع منصهر تماماً بسبب هجراتهم، بل وأثر في العولمة الحديثة، ومجتمع الحضارم ذو طبيعة مختلفة وفكر خلاق، وأقرب وصف جمالي لهم أنهم كدوى النحل في العمل إذا أردت عسلاً صافياً، وكدبيب النمل تشبيهاً إذا أردت معنى للصبر والاجتهاد، والحضارم أمة من النسيج العربي في الخليج، متواضع وبسيط، هرب من طبقية الأرض وميزان النسب، إلى معيار العولمة لا فرق بين الصغير والكبير سوى العلم والأدب والاحترام . سأحاول طرح تصور حقيقي، وكيف نجح الحضارم في تأسيس مفهوم مثالي لـ (العصبية القبلية) والانتقال بها إلى مساحات أرحب، من خلال نشاط بشري معروف وهو الهجرة والتسامح، وليست مبالغة القول إن تلك الهجرات من الناحية النظرية مثلت الغرسة الأولى في مفاهيم (العولمة)! والهجرة في تعريفها العام، توصف أنها نشاط سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، فمن ينتقل من مكان إلى مكان، سيحمل معه كل شيء (نسبه وحسبه ودمه وتاريخه وثقافته وعاداته وسلوكه... إلخ) إلى المكان الجديد، وهذا المكان الجديد تكون فيه أمم وشعوب، فإما أن يلتقي الطرفان ويتأثرا ببعضهما بعضا ويندمجا وينصهرا ويؤسسا نظرية جديدة للتعايش، وإما أن يفترقا! ما حدث حقيقة، أن تاريخ هجرات (الحضارم)، قدم لنا نموذجاً مثالياً في كيفية التعايش الأخلاقي، والحضارم حافظوا في كل المحطات التي وصلوا إليها، على هويتهم، ولم يتنكروا لها، حافظوا على سلالتهم وعرقهم، وفي الوقت نفسه، اندمجوا وانصهروا مع المجتمعات التي وصلوا إليها، وكان أحد أسباب استقرارها وربما (توازنها). إن تاريخ هجراتهم موغلة في القدم، والتي بدأت في ( إفريقيا) منذ القرن الأول قبل الميلاد، والتي لم تكن على شكل غزوات استعمارية أو نزوح جماعي، بل كانت أشبه بانتقال حضارة جنوب شبه الجزيرة العربية إلى الساحل الإفريقي، وشكلت قبيلة (الأجاعز) التي غادرت مواطنها الأصلية في جبل (حبيشة) شمال شرق حضرموت لتستقر في إثيوبيا، وفرع (الحبشات) من قبيلة الأجاعز هم من أعطى اسمه للهضبة التي ما زالت تعرف إلى اليوم بهضبة الحبشة، وقد تابع الحضارم سيرة أجدادهم بالهجرات المتعددة إلي شرق إفريقيا ويقدر عددهم الآن نحو ستة ملايين حضرمي في كينيا وجيبوتي وتنزانيا والسودان، وفيهم رجال الأعمال والوزراء والأدباء المعروفون حتى يومنا هذا. كذلك فإن هجرتهم إلى (الهند)، تمثل رافداً عربياً وحضارة إنسانية، واستقرارهم في منطقة (جدروزايا) الواقعة بين جبال (كيرالا) ونهر (السند)، وذكرها الباحثون في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة (بيرجن) الألمانية، بعد اكتشاف شبكة من العلاقات التجارية في القرن الخامس الميلادي في حضرموت تشابه بشكل كبير تلك التي قامت في القرون الوسطى في منطقة الهند، الأمر الذي دفع إلى التأكيد أن العلاقات التجارية وحركة الهجرة من حضرموت إلى أقطار المحيط الهندي كانت ثابتة في مرحلة ما قبل الإسلام. الحضارم شعب مسالم، لم ينزعوا أي شعب في أرضه، كما فعل (الفينيقيون واليونانيون) في العصر القديم أو مثل (الإنجليز والهولنديين) في عصر الاستعمار أو مثل (الصينيين) في العصر الحالي، بل مالوا إلى تعميق التوطين مع الشعوب المختلفة التي تعاملوا معها وأسسوا مجتمعا مسالما في شرق آسيا، وخاصة في (إندونيسيا)، فهم الذين أسهموا في نشر الدين الإسلامي في هذه الأمة من القرن السابع الميلادي، ثم أسهمت الهجرة الثالثة لهم في القرن الثامن عشر الميلادي، بتكوين مجتمع إندونيسي ذي أصول حضرمية، فأسهموا مع أهلها في تحقيق استقلال إندونيسيا وبناء حكومة وطنية، ولعل أشهر شخصياتهم الدكتور علي العطاس وزير الخارجية الإندونيسي وعلوي باشهاب وفؤاد باوزير وزيرا المالية، وسعيد عقيل منور السقاف وزير الشؤون الدينية، ويقدر اليوم عدد الإندونيسيين من أصول حضرمية بثمانية ملايين نسمة. ومع بداية القرن التاسع عشر الميلادي كان على الحضارم التكيف مع المعطيات الجديدة التي أفرزتها القواعد الدولية من حدود ونظم سياسية ومواطنة، هذا الموضوع دفع الحضارم إلى تبنّي نوع من الانصهار التام، وتأكيد انتماء الحضارم إلى أوطانهم التي ولدوا فيها وأصبحوا جزءا من نسيجها الاجتماعي، وهكذا انتقلت هجرة الحضارم مرة أخرى إلى أرض الحجاز هربا من الاستعمار البريطاني ثم الحكومة الاشتراكية بعد الاستقلال، والحجاز، كما قال عنها محمود صباغ، إنها (لكوزموبوليتانية) وذات جذوراً ممتدة في القدم، حيث تنص (الميثولوجيا) المحلية بأن ترابها يثوي جثمان أم البشريّة سيدتنا حواء عليها السلام بكل ما تحمله تلك الأسطورة من دلالات ترابط وتواصل على أساس كوني، وعلى ماضيها العريق في استقبال جميع الأجناس والترحيب بجميع الثقافات دون انغلاق أو تمييز، والحجاز بها المدينتان المقدستان مكة والمدينة، وهي مبتغي طلب جوار بيت الله الحرام ومسجد رسول الله لطلب العلم، وتتلمذ الحضارم على يد علمائها وبلغوا معها مرتبة عالية في العلم، أهلت العديد منهم لتسلم منصب إمامة الحرمين المكي والنبوي في ذلك الوقت، منهم عبد اللطيف بن أحمد باكثير 911 هـ قاضي قضاة الشافعية في مكة المكرمة، وهناك أيضاً السيد محمد بن أبي بكر شلي عام 1030هـ الذي تولى التدريس في الحرم المكي. والسيد حسين بن محمد الحبشي 1258هـ الذي تولى الإفتاء للشافعية بمكة المكرمة والشيخ عمر أبو بكر باجنيد المستشار الديني للملك حسين بن علي والذي درس في الحرم المكي وأحمد بن حسن العطاس 1257 هـ تولى التدريس في الحرم المكي والشيخ محمد سعيد بابصيل عام 1330هـ الذي تولى الإفتاء للشافعية ومشيخة العلماء في مكة ومحمد صالح المحضار في عام 1367هـ الذي تولي التدريس في المسجد النبوي. ومع توسع النشاط التجاري للحضارم في آسيا وإفريقيا، تولى كبار تجارها بإرسال أبنائهم للاستقرار والتوطين في الحجاز، حيث أقاموا عدداً من البيوت المالية التي شكلت نظاماً مالياً إسلامياً متطوراً يقدم خدمات الصرافة والتحويل والتمويل للتجار المسلمين الذين يأتون من جميع الأقطار الإسلامية إلى الحجاز بغية الحج والتجارة، ولقد اعتمد العثمانيون عليهم في الشؤون المالية لولاية الحجاز، وكذلك فعل الأشراف من بعدهم، فقد كان عبد الله بامصفر وزيرا للمالية في عهد الشريف عبد المطلب، وعبد الله باناعمة وزيرا للمالية في عهد الشريف عبد الله بن عون، وفي عهد الملك حسين بن علي عام 1916م كان رئيس الديوان الهاشمي أحمد السقاف، وعبد الله باشا باناجة وزيرا للمالية، وشاهبندر التجار في جدة عمر باجنيد، وأحمد باهارون كان عضو مجلس بلدي، وأحمد بن عبد الرحمن باناجة أمين صندوق بلدية جدة، وعبد الله باصبرين ومحمد باعشن من أكبر تجار المواد الغذائية. وبعد وصول جيش الملك الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله تعالى ـ إلى الحجاز وإعلان توحيد أغلب مناطق الجزيرة العربية باسم المملكة العربية السعودية عام 1932م، كان الحضارم من أوائل أفراد المجتمع الحجازي الذين أعلنوا الولاء والطاعة لمؤسس هذا الوطن، مقرنين نعمة الله عليهم بالشكر والثناء، ثم لثقة آل سعود فيهم بالوفاء والإخلاص، وأسهموا بكل قدراتهم، وأعطو بكل إمكانياتهم، وعلاء مقامهم وحظي علماؤها وتجارها بالثقة والتقدير والمكانة الرفيعة عند الملك الموحد عبد العزيز ومن بعده أبناؤه الملوك الكرام في جميع أوجه التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ختاما: خلال أكثر من 100 عام وحتى الآن استطاع السعوديون ذوو الأصول الحضرمية، تعميق الشعور بالانتماء للأرض التي يعيشون عليها، إدراكاَ منهم لواجباتهم في خدمة الوطن (السعودية) الذي يتنعمون بخيراته ويعتزون ويتشرفون بعزه وشرفه، وتعلى مراتبهم بعلو منزلته ومرتبته.
إنشرها