رفض التأمين الصحي كمبدأ أم كتطبيق؟

تلقيت العديد من الأسئلة التي تدور في مجملها حول أن بعض القراء لا يميزون بين إقرار التأمين الصحي كمبدأ وبين الاتفاق على أحد صيغ التأمين الصحي. ففي الإطار العام يمكننا الاتفاق على أن التأمين الصحي يعد أحد أنجع الوسائل التي تساعد الميزانيات الصحية المحدودة من أن تستثمر بشكل أفضل. فالتأمين الصحي أقر من أجل تحقيق استفادة عظمى من الموارد المالية المخصصة للقطاع الصحي ومن أجل رفع الجودة الصحية وزيادة مرتادي الخدمات الصحية الحكومية من قبل المواطنين. لذا صدر نظام الضمان الصحي التعاوني على المقيمين من غير المواطنين بقرار مجلس الوزراء رقم 71 بتاريخ 27-4-1420هـ لرفع مستوى الخدمات الصحية وزيادة مرتاديها من المواطنين. فالإحصائيات تخبرنا أن 20 في المائة من المنومين في مستشفيات وزارة الصحة هم من غير السعوديين، في حين أن 56 في المائة من المنومين في المستشفيات القطاع الخاص من السعوديين. كما أن 25 في المائة من المراجعين للعيادات الخارجية من غير السعوديين. فالحديث كان في مجمله يدور حول أن الضمان الصحي التعاوني هو الكرة السحرية التي تساعد على تحسين مستوى الخدمات الصحية الحكومية وزيادة رواد الخدمات الصحية الحكومية من قبل المواطنين.
لعلنا نتفق في أن التأمين الصحي مفهوم عام يحقق استثمار أمثل للموارد المالية لكن إقرار صيغة محددة من صيغ التأمين الصحي محل جدل ونظر. عند اتفاقنا على هذا المبدأ فباستطاعتنا أن نصل إلى قناعة مشتركة محورها أنه إذا لم تكن صيغة التأمين الصحي تحقق استثمارا أمثل للموارد المالية المخصصة للصحة وتحقق رفع الجودة الصحية وتوفر الرعاية الصحية لمن يحتاج إليها، فعدم تطبيقها أولى. فالكثير من الدول طبقت التأمين الصحي كان من أجل تحقيق موازنة عادلة في الصرف على الخدمات الصحية لكنها لم تنجح عمليا في تحقيق ذلك بسبب ارتفاع التكلفة العلاجية ومن ثم زيادة المخصصات المالية للخدمات الصحية. فمثلا لم يساعد تطبيق التأمين الصحي الولايات المتحدة على التحكم في تكلفتها العلاجية أو زيادة عدد المستفيدين من الخدمات الصحية. ففي عام 2004 بلغ الصرف على الرعاية الصحية 1.9 تريليون دولار (وليس مليونا) أي أن معدل الصرف بلغ 6280 دولارا لكل شخص وهي نسبة عالية بكل المقاييس ومع ذلك يوجد أكثر من 46 مليونا ليس لديهم تغطية تأمينية أو أكثر من 15 في المائة من الأمريكيين دون غطاء تأميني. كما أن تكلفة الرعاية الصحية في أمريكا بلغت مستوى يصعب التحكم فيه. ومما يزيد الواقع الصحي تعقيدا أن بعض الدراسات بينت أن التكلفة العلاجية في أمريكا ستزيد مستقبلا. فالصرف على الرعاية الصحية من المتوقع أن تزيد من 16 في المائة من مجمل الدخل القومي إلى 20 في المائة خلال العقد المقبل. فتكلفة زيادة المريض في أمريكا في مدينة سياتل مثلا 52 دولارا، بينما تبلغ التكلفة 18 دولارا في مدينة فانكوفر في كندا.
فعند أقرار إي صيغة من صيغ التأمين الصحي فعلينا النظر حول الصيغة التي تحقق استفادة أكبر من المواطنين من الميزانيات الصحية، كما تحقق تحكما أكبر في التكلفة العلاجية وتسهم في رفع مستوى الجودة الصحية المقدمة. هذه الشروط الثلاثة أساسية عند إقرار أي صيغة تأمينية أو التأكد من نجاحها. كما أن إقرار الصيغة التأمينية يجب أن يربط بإقرار بوليصة التأمين أو التغطية التأمينية الرئيسية. فليس من العدل أن تقيم صيغا تأمينية لا تغطي الخدمات الرئيسة المتوقعة منها. فمن هنا فإننا نتساءل هل الصيغة التي أقرت أخيرا تحقق هذه الشروط الثلاثة أم أنها تحقق بعض الشروط دون بعضها؟
من ألمؤسف أن مشاركات شركات التأمين في إقرار صيغة التأمين الصحي طغت على مشاركات القطاعات الصحية الحكومية المختلفة ليس على المستوى التمثيل العددي ولكن على المستوى التشريعي والعلمي. فمثلا كانت نقاشات علمية قيمة تم طرحها حول التأمين الصحي كمبدأ عبر لجنة الشؤون الصحية والبيئية في مجلس الشورى لكن الحوارات العلمية كانت أقل في التوصل لصيغة محددة للتأمين الصحي. بمعنى أن النقاش كان في إطار تقبل التأمين الصحي كمبدأ وليس مناقشة صيغة التأمين الصحي المعروضة ومدى فاعلية تطبيقها. فلجنة الشؤون الصحية درست التأمين الصحي وفق الصيغة المرفوعة لها من قبل مجلس الضمان الصحي وليس باستقلالية ووفق تطبيقات التأمين الصحي في الدول المختلفة. فالعديد من الدول مازالت ترسل فرق من مجالسها البرلمانية لدراسة التأمين الصحي على الدول الأخرى بمنأى عن الصيغة المقرة في بلدها. ففي أمريكا تم إرسال "وما زلت ترسل" العديد من الفرق المتخصصة لدراسة الأنظمة الصحية في كل من ألمانيا، إنجلترا، فرنسا، وهولندا وغيرها ومقارنة هذه الأنظمة بالنظام الصحي الأمريكي.
ونظرا لاختلاف الصيغ التأمينية على المستوى الدولي، كان من المفترض أن تعرض الصيغ المطروحة كمحور للنقاش في مجلس الحوار الوطني، خصوصا أن خادم الحرمين الشريفين قد دعا إلى تفعيل الحوار الوطني بشكل أكبر خصوصا في المواضيع التي تمس المواطن بشكل مباشر. ولا يعني كلامي هذا أن مشاركة الشركات التأمينية في وضع الصيغة التأمينية ليست أساسية لكنها يجب أن تكون جزئية وليست محورية.
فاتفاقنا على التأمين الصحي كمبدأ لا يعني اتفاقنا على الصيغة المنفذة. فالتأمين الصحي كمبدأ هو مخرج العديد من الدول من أجل ضبط الصرف على الخدمات الصحية لكن إقرار صيغة معينة من صور التأمين الصحي لا نستطيع الاتفاق عليها دون حوار وطني يقارن تلك الصيغ وفق الشروط الثلاثة السابقة الذكر. فلكل دولة صيغتها التي تتناسب مع وضعها الاقتصادي والاجتماعي وبنية تحتية. نتمنى أن تقر الصيغة التأمينية بمنأى عن تجارب بدائها غيرنا بل بتجارب آلت إليها تجارب الآخرين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي