التعلق بالماضي والخوف من المستقبل

[email protected]

هذا الموضوع من المواضيع التي أنشد لها وأتعلق بها وأحب الحديث فيها والكتابة عنها ولكنني أهابها وأتخوف من الخوض فيها لأنني أشعر بأن الاقتراب من هذا الموضوع والتفكير فيه ربما يسرقاني من اللحظة التي أعيش فيها, فمالنا والماضي ونحن نعيش في زمن تتكدس فيه المشكلات والأزمات حتى صرنا نشعر بثقلها على ظهورنا وكأننا نحمل أطنانا من تراب الثقوب السوداء, التي يقول عنها الفلكيون إن الملعقة الواحدة من هذا التراب, لشدة اندكاكه وكثافته, وزنها يعادل ألف مليون طن من التراب العادي, وهذا الذي جعلها تمتلك قوة جاذبية عظيمة لا يستطيع حتى الضوء أن يفلت منها, ولذلك سميت الثقوب السوداء, لأنها ثقوب كونية تبتلع حتى الضوء. كلمة مؤثرة سمعتها من أحد الرجال المسنين عندما انتهيت من حديثي له عن الثقوب السوداء, قال, إذا كان الضوء لم يستطع الهروب من هذه الثقوب السوداء وعنده السرعة الهائلة التي ينتقل بها إلينا من الشمس في بضع دقائق فكيف نستطيع أن نهرب نحن البشر من النار لكل هذا الفساد الذي أحدثناه على هذه الأرض؟ وما لنا ومال المستقبل ونحن لا ندري ماذا نفعل بالحاضر؟ فأكلنا نستورده من غيرنا وماؤنا يتحكم فيه من لا يهتم بأمرنا وثرواتنا ليست في أيدينا وأمورنا في فوضى ومجتمعاتنا في اضطراب سياسي وتطاحن مذهبي وفساد اقتصادي, فكيف لنا أن نحلم بالمستقبل وهذا حال حاضرنا وقد أثقلنا بمشكلاته وحاصرنا بأزماته وأتعبنا بتحدياته؟ ولكن هل لنا من بد إلا أن نعيش هذا الحاضر بما فيه من أزمات ومشكلات وتحديات إذا ما كنا نريد حقا أن نصنع لنا طريقا إلى المستقبل؟ علينا أن نعيش مشكلة اليوم وأن نجتهد في مواجهتها والتصدي لها حتى يأتي المستقبل ونحن قد تجاوزناها وقطفنا ثمار حلها. فأزمتنا اليوم أننا لا نعيش مشكلاتنا وإنما نعيش إلى جنبها وكلما وجدناها تكبر مع الأيام صرنا نخاف أكثر من المستقبل, وانتهى بنا الحال إلى أن نوجد في الحاضر من دون أن نعيشه أو نستوفي شروطه, وأن نتطلع إلى المستقبل ولكننا نخاف من قدومه لأننا لم نخطط له ولم نستكمل عدة الدخول فيه. فلم يبق عندنا إلا أن ندير وجهتنا نحو الماضي, فتعلقنا به لم يأت إلا بسبب أزمتنا مع حاضرنا, وخوفنا من المستقبل هو نتيجة طبيعية لفشلنا في إدارة حاضرنا ومواجهة واقعنا.
قد لا نستطيع أن نعدد أوجه التخلف التي نعيشها في الوقت الحاضر, وهذا ما جعلنا لا نستطيع أن نتهم بعض المفكرين بالمبالغة إذا ما قالوا لنا وحذرونا بأن المسافات تكبر بيننا وبين غيرنا وأن مساحات التخلف تتسع عندنا, فمشكلتنا الرئيسية اليوم أننا نراكم المستقبل إلى الحاضر ولا ندري ماذا نفعل بهما, في مقابل ذلك نجد الأمم الأخرى وهي تزداد قوة وتزداد معرفة وتزداد خبرة وتزداد قدرة في تحديد مستقبلها, بل إن قوتهم وقدرتهم في ازدياد كل يوم حتى صار بالإمكان أن تمتد أيديهم إلى أعماق أعماق المستقبل ليستعمروا زمنه ويشكلوا وقائعه ويحددوا أدوارهم ويرسموا أفعالهم ونحن في غفلة من كل هذا.
دعوني أقرب لكم كيف أن الغرب والشرق مشغول بالمستقبل والتخطيط له ونحن مشغولون بإلغاء أنفسنا وبتحطيم قدراتنا وفي العراك مع بعضنا, فالبعض يريد منا أن نلعن زماننا لكثرة ما فيه من انحراف وبدع وضلال, والبعض يتهمنا بأننا لا نعيش عصرنا, وهناك من يقول إننا نجتر أنفسنا وإن الزمن قد توقف عندنا, وآخرون يطالبونا بمقاطعة كل شيء ينتمي إلينا والاستعاضة عن الذات بالآخر المتطور ومحاولة التماهي معه. هذا الصراع مع النفس أشغلنا كثيرا عن التفكير في مستقبلنا ما دفع البعض منا إلى أن يهجر زماننا وأن يلتجئ إلى الماضي لعل في الماضي ما يعيد له بعض التوازن والوجود اللذين يفتقدهما الآن. أما الأمم المتقدمة فتزداد كل يوم انشغالا بالمستقبل لأنها علمت أن الرهان على غيره هو خسارة كل شيء. فالمثل الذي أحببت ذكره للقارئ هو كيف أن مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة ميتسوبيشي اليابانية العملاقة, وهو في التاسعة والثمانين من عمره, كان شغله ومهمته وهو في نهايات عمره أن يعد خطة متكاملة للشركة للخمسين السنة المقبلة, نعم للخمسين السنة المقبلة, إنه مشغول بما هو قادم لأن الحاضر يعمل وفق الخطة المرسومة. وحتى الشركات القذرة وغير الأخلاقية, التي لا يرجى منها الخير, نجدها تفكر في المستقبل وتخطط للمزيد من النجاح والبقاء بأعمالها القذرة وتجارتها غير الأخلاقية إلى أطول فترة ممكنة. وفي مقابل ذلك نجد أننا عندنا نزعة تدفع بنا إلى ربط كل ما تم بناؤه والنجاح فيه بالشخص وبالفرد وقد نجد أن هذا الشخص يتمنى ألا يتواصل هذا النجاح في غيابه وألا يستمر بعد انتهاء دوره, وهذه مصيبة من كبرى مصائبنا.
ترى ماذا حصلنا عليه وماذا جنينا على أنفسنا عندما تحولنا إلى أمة مقطوعة الصلة بمستقبلها؟ فالماضوية هي تعطيل لحاضرنا وتخريب لمستقبلنا وهي نتيجة طبيعية لهذا الخوف من المستقبل والهروب منه. وعلينا ألا نستهين بما سيؤول إليه أمرنا عندما يسيطر الماضي بشخوصه ورموزه وعاداته وتقاليده على تفكيرنا وثقافتنا. فهذه السيطرة هي التي تدفعنا إلى استنساخ الماضي في حياتنا, فلا غرابة أن ننشغل بالموضوعات نفسها التي انشغل بها آباؤنا, وكيف لنا أن لا نكرر الحروب نفسها وبالدوافع نفسها التي قامت بها حروبنا السابقة. فثقافتنا مشغولة بالكيفية التي تقدم لنا هذا الماضي لأنها مهتمة بألا تضعف علاقتنا وتعلقنا به, فمرة تحاصرنا بفكرة أن الإنسان ينحدر أخلاقيا وإيمانيا مع الزمن, وهذا يجعل الحاضر أسوأ من الماضي ويجعلنا نحن المعاصرين أقل رتبة من السابقين, ومرة تحذرنا هذه الثقافة من الوقوف عند تفاصيل ما حدث في تاريخنا لأن الخوض في أمور الماضي ربما يوقعنا في التشكيك في قداسة تاريخنا ونبالة من سبقونا وهذا ما لا تريده لنا, ومرة أخرى تخوفنا ثقافتنا من القطيعة مع الماضي لأن في ذلك تخليا عن هويتنا الثقافية وشخصيتنا الاجتماعية وكأننا نحن اليوم نمتلك شخصية ثقافية معتبرة. إن التعلق بالماضي والانشغال الزائد به ربما قلل في نظرنا من قيمة الحاضر وكره في نفوسنا حتى التفكير والتخطيط للمستقبل. ولن نعود إلى الاهتمام بالحاضر بشكل جدي إلا بهجرة الماضي والاستقرار في الحاضر والاعتراف بأننا جزء من هذا الحاضر وأننا نحن المسؤولون عن المشكلات التي ينتجها هذا الحاضر ونحن المطالبون بحلها وليس غيرنا.
أما الخوف من المستقبل فأمر التخلص منه مرهون بقدرتنا على تفكيك عدد من العقد الثقافية التي نعانيها والتي ورثناها أبا عن جد وشكلت لنا الأساس لصياغة رؤية مشوهة عن المستقبل. فكبرى هذه العقد وأشدها تعقيدا هي نظرتنا للمستقبل على أنه غيب وليس بمقدورنا كبشر أن نعرف عن هذا الغيب, بل عندنا أنه من غير المحبب أو المرغوب فيه أن يطمئن الإنسان إلى ما يصل إليه أو يعرفه عن هذا الغيب. وعلى الرغم من أننا نعلم أن عند الإنسان بصرا وبصيرة, فحواس الإنسان محدودة القدرات, فالبصر هو أيضا محدود في قدرته على رؤية الأشياء, وأما البصيرة فهي رؤية ممتدة في عالم الأشياء بامتداد قدرات الإنسان العلمية والفكرية والنفسية, فالبصيرة التي ينتجها الإنسان بعلمه وفكره تستطيع أن تخترق الزمن وترى تسلسل الأمور وتعاقب الأشياء وتبدل الظروف لتعود بعد ذلك لتعين صاحبها على رؤية الأمور على حقائقها وتلمس ما ستنتهي إليه الحوادث من أمور, وهذا كله مطلوب للتخطيط والإعداد للمستقبل. ولا نستطيع أن نفك هذه الغيبية عن نظرتنا للمستقبل إلا بنفض الغبار عن إيماننا بالسنن الكونية, فلا عبث ولا فوضى ولا محاباة في هذا الكون وكل شيء فيه يتحرك وفق قوانين دقيقة ونحو أهداف محددة وهي متاحة لأن يعرفها الإنسان, وبمعرفتها يعرف الكثير عن المستقبل. أما العقدة الأخرى في طريقنا نحو المستقبل فهي شدة نفورنا من التغيير, فكل من يرمي حجرا في مياهنا الراكدة هو من طلاب الفتنة, فالشر في الفتنة والفتنة في التغيير, وهذا يعني أننا لا نرى الخير في التغيير بل نراه مقدمة لارتكاب الخطأ والوقوع في الشر. قد يقول قائل: ماذا نعني بهذا الكلام ونحن نغير كل يوم سياراتنا وبيوتنا وألوان جدراننا ونقتني الجديد من الملابس والأثاث وغيرها من حاجاتنا؟ هذا النوع من التغيير هو تغيير في الشكل والمظهر وهو تغيير لا ينتج لنا المستقبل ولا يعدل الحاضر الذي نعيشه بل ربما يزدنا سوءا وتبعية للآخرين, ولكن المقصود بالتغيير هو تغيير الأفكار والأطر الفكرية التي نعيشها ونتحرك فيها. فأزمتنا في عالم الأفكار وليس في عالم الأشياء, فلا نحن ننتج الجديد من الأفكار لنطور بها الواقع الذي نعيش فيه ولا نحن نتقبل من الآخرين ما ينتجوه من أفكار ربما تصلح لنا وتتناسب ليس فقط مع ظروفنا ولكنها قد تلبي حاجاتنا وتستجيب لمتطلباتنا. وهناك عقدة أخرى لا تقل في أهميتها عن السابقتين وهي المفهوم الناقص عن معنى الجماعة والانتماء إليها, فنحن اختصرنا انتماءنا إلى الجماعة وحصرناها فقط في إطار القبيلة أو العشيرة أو المذهب أو المنطقة, وهذا يعني أننا لا نعير بالا أو اهتماما بالجماعة الأكبر وهو الوطن أو الدولة, وهذا يقلل من حماسنا للتخطيط والإعداد للمستقبل المشترك. وثقافتنا لا تحرك فينا مشاعر الانتماء لمن سيأتي من بعدنا بل إنها تؤكد لنا في خطابها لنا أننا جزء من أقوام ماضية ولا ذكر للمستقبل في خطابها, فكيف لنا إذا ألا نتعلق بالماضي أو أن نلتفت إلى المستقبل ونهتم به؟ إذا ما أردنا أن نهتم بالمستقبل وننشغل بالاهتمام به والتخطيط له فإن المطلوب هو تعزيز الانتماء للوطن وللمجتمع عموما, فالوطن هو الماضي وهو الحاضر والمستقبل, وكلما استطعنا أن نعزز من انتمائنا للوطن فسنعزز من حضور المستقبل في أذهاننا وسيدفع بنا أكثر للاهتمام بقضايا المستقبل.
لقد أدت الأوضاع المتردية التي نعيشها نحن العرب والمسلمين إلى زيادة حدة شعورنا باليأس من تغيير هذه الأوضاع, لقد سيطر علينا تصور بأننا رهينة عند الآخرين وبأن هؤلاء لا يريدون بنا خيرا وبما أنهم هم الأقوى منا فلا أمل لإصلاح أوضاعنا وأن المستقبل ينذر بالمزيد من الانحدار لأوضاعنا. فالحاضر طارد لنا لكثرة ما فيه من مشكلات وأزمات وانتهاك للحقوق والمستقبل لا أمل فيه لأنه ملك لمن خطط وأعد نفسه له ولم يبق لنا إلا الماضي الذي لا ينافسنا فيه أحد, نستنسخ منه ما نريد من الحروب والصراعات والنزاعات لعلنا نشعر بوجود لنا حتى ولو كان وهميا وليس حقيقيا, ونتذكر ما حدث فيه من انتصارات وإنجازات لعلها تعيد لنا بعض الكرامة التي لا نجدها في حاضرنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي