.. وهذه رسالةٌ عجيبةٌ أخرى. كنت أظن أن رسالة المرحوم ناجي المحروم من الكلام المشلول العبقري الصغير هي آخر وأروع رسالة ممكن أن أتلقاها.. ولكن يثبت رجلٌ آخر كم كنتُ مخطئا. وإن كانت ملحمة ناجي ملحمة ميلودرامية حزينة رغم فوائدها وأثرها العظيم في الناس وتواتر هذا التعاطف وتزايده يوما وراء يوم، إلا أن قصة صديقنا اليوم، قصة تجربة رجل آخر أشار إلى إعاقة جزئية، ومع أنه ذكر اسمه كاملا، إلا أني لست مخولا بذكره، لأني أرسلتُ له مستأذنا ولم أحصل على ردٍّ حتى كتابة المقال، وحال وصول أي تصريح منه ستعلمون بإذن الله لاحقا.. هذا الإنسانُ حقق المعجزة بالنجاح رغم الظروف ورغم التمييز ورغم الإهمال ورغم الاستغلال، قهرها كلها وفاز.. وعلمني درسا أن المعجزات تحصل، وأن المعجزة هي الإيمان العميق والثقة الراسخة بالنفس..
كتب لي الرسالة بإنجليزيةٍ فصيحةٍ ومؤثرة، ولن أسائله لم كتبتَ لي بلغة غير لغتنا الأم، فلعل له ظروفه، ولكنه أبدع في الكتابة، وأبدع في العرض، وأبدع في الرؤية، وأقدمه كدرسٍ حي وواقعي كي يؤمن كل منا بأن الله عادل، وأن عدله ذروة العدل الكوني، وأنه حين يأخذ فهو يهب بشكل أجزل وأعظم.. وأننا يجب أن نؤمن بتلك القوى التعويضية الكامنة، ونبحث عنها، ونستغلها مولدات دافعة لشق طريقنا في الدنيا للنجاح وإثبات الوجود.. أترككم مع الرسالة مترجما لها إلى العربية:
" عزيزي نجيب،
أشير إلى مقالتك المنشورة في الاقتصادية بتاريخ 20 تشرين الأول (أكتوبر)2007م، عن ناجي.. ولقد تابعت التجاوب من قرائك منذ ذاك الوقت.
أبدأ بتعريفك بنفسي أنا "...." أبلغ الرابعة والثلاثين من العمر، سعودي الجنسية، بإعاقة جسدية جزئية. وأحمد الله كثيرا بأني متزوج ولي من الأبناء ثلاثة.
لقد سلختُ من عمري سنين كي أقيم منزلا لعائلتي، وكي أكمل تحصيلي العلمي. أثناء دراستي عملت في مستشفى كي أطور لغتي الإنجليزية المحكية. وكإنسان "معاق" كان من الصعب علي أن أوازن بين العمل والدراسة، ورغم كل العقبات أكملتُ شهادة البكالوريوس. حينها، كان رئيسي الأمريكي يطلب مني أن أبذل مزيدا من الجهد والعمل، مستغلا عاطفة شخص معاق بما يردده بأني أفضل من أولئك المكتملين جسديا. فاستقلتُ من عملي بسبب اختلافاتٍ بوجهات النظر حول هذا التفريق والتمييز.
بعد استقالتي تلك، عملتُ مع شركةٍ عسكريةٍ تعمل للحكومة السعودية, وكنتُ فرحا بشهادتي، وانكببتُ جادا في حياتي العملية. وبعد أربع سنوات من العمل ضقت من طريقة رئيسي المشابهة في استغلال عاطفتي لبذل المزيد من العمل والجهد أكثر مما تتطلب واجباتي، وأكثر مما يؤديه الباقون. فاستقلتُ من عملي بسبب اختلافاتٍ بوجهات النظر حول هذا التفريق والتمييز.
ثم التحقت بالتلفزيون السعودي القناة (2)، كمذيع باللغة الإنجليزية. وسُمح لي أن أقوم بتقديم الأخبار فقط بعد ستة أشهر من التحاقي بالعمل نتيجة لقدرتي الاحترافية في اللغة الإنجليزية. وحصل شيء آخر.. عينوني بأوقات الدوام المتأخرة، لماذا؟ لأني بطلٌ لا يقهر، والوحيد الذي يتحمل مشقة العمل الصعب.. فاستقلتُ من عملي بسبب اختلافات بوجهات النظر حول هذا التفريق والتمييز.
في آخر المطاف حصلتُ على منحةٍ دراسيةٍ كاملةٍ من السفير البريطاني الذي لاحظ وقدّر تكريسي في عملي واحترافيتي.. وترى أن الذي قيم جهودي شخصٌ آخر ولكنه لم يكن من السعوديين!
بعد أن أنهيت درجة الماجستير، التحقت بالهيئةِ العليا للسياحة تحت رئاسة الأمير سلطان بن سلمان. ثم قررتُ أن أغير مهنتي إلى حقل الموارد البشرية.. فعملت جادا وجاهدا ومثابرا حتى إني حصلتُ مرتين على اختيار موظف الشهر. بعد ثلاث سنوات استقلت، ولكن هذه المرة بتفاهم وانسجام مع رئيسي لأن هيئة السياحة كانت بيئة صحية وخالية تماما من التمييز.
والآن.. أعمل كمدير للموارد البشرية لتأسيس قوانين تحمي "المعاقين" من التفرقة والتمييز.
سيدي، صدقني أن الاكتمال الجسدي هو سببٌ غير معلن للتوظيف في بلادنا، وليست هناك أنظمة مكتوبة أو واضحة تحمينا وتحول المعاقين إلى قوى عاملة منتجة.
عزمتٌ أن أكتب لك هذه السطور، كي أخبرك بأن هناك من يعمل لمساندة كتاباتك في هذا الموضوع.. وتعزيزا لوصية ناجي. ناجي لم يكن قادرا على التعبير بالكلام، ولكن أنت وأنا نستطيع مخاطبة الآخرين..
أشكرك.. على أشياءٍ قد لا تعلمها أبدا!"
انتهت الرسالة.. ثم ثارت الخواطرُ والأفكار.
