تحدث بصوت لا يكاد يُطاق يخلط فيه بين لغة الغضب والانفعال لا يمكن للمستمع له أن يحاوره أو حتى يستمع إليه، قال بذلك الصوت الغاضب: لمصلحة من يتحول شهر رمضان المبارك إلى شهر لهوٍ وفنٍ وطرب ومسابقات ربوية؟! إننا كمسلمين نتعرض لمؤامرة لسلب ديننا منا وجعلنا عبدة للقنوات الفضائية، كل المغريات الفنية تجدها في رمضان ولا تجدها في غيره، لقد كان حديثه يحمل كل التأكيد أنها مؤامرة أمريكية - إسرائيلية ضد أبناء العرب والمسلمين لسلب دينهم منهم، كما كان يردد "لقد تعبت مع أبنائي في هذا الشهر فلا صلاة ولا عبادة، ولكن أخشاب مسندة أمام التلفزيون"، استمر في حديثه دون أن يترك لأحد من الحضور أن يقاطعه أو يحاوره أو حتى يلتفت لغيره، حقيقة كان غاضبا وله الحق في ذلك وحقيقة كان ديكتاتوريا في حديثه ولم يكن له الحق في ذلك لأنه لم يعط الفرصة لأحد من الحضور أن يدلو بدلوه، تركته يُكمل حديثه الغاضب وتساءلت بيني وبين نفسي، ما يقوله الرجل حقيقة من أن شهر رمضان المبارك أصبح ميدانا للتنافس بين القنوات الفضائية العربية في تقديم مختلف البرامج الترفيهية وغير الترفيهية بحيث لم يعد هناك فاصل بينهما، تبدأ البرامج قبل أذان المغرب وتستمر بشكل مستمر حتى بعد منتصف الليل ليتم بعد ذلك إعادتها مرة أخرى وعلى مدار الساعة، حقيقة لم يتطرق لها صاحبنا أن بعض تلك البرامج يحمل مضامين تربوية واجتماعية وسياسية هادفة، تشرح لمختلف فئات المجتمع ومسؤوليه معاناتهم من بعض القضايا المعاصرة بأسلوب كوميدي هادف ولا تخلو في بعض الأحيان من التجاوزات التي قد لا ترضي أحد الأطراف المعنية. لقد عشنا مع أم حديجان رحلة تزيد على الـ 50 عاما جميعاً صغاراً وكبار حول الراديو للاستماع لما يطرح الأستاذ عبد العزيز الهزاع من آراء ومواقف اجتماعية ورسائل تربوية في شكل كوميدي، على أنه يسبق ذلك وبعد صلاة المغرب مباشرة حديث الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، وبهذين البرنامجين الهادفين ينتهي الأمر وبعدها يشمر كل واحد من الرجال والنساء عن ساعديه لأداء صلاة العشاء والتراويح ثم السمر قليلاً بعدها والنوم، ولكن في أيامنا هذه انقلبت المفاهيم وأسلوب الحياة بشكل لا يرضي الله سبحانه وتعالى أولاً ولا كل محب لهذا البلد.
إننا اليوم وللأسف الشديد نعيش أزمة تنموية اجتماعية حضارية غير مسبوقة، نقود أنفسنا وخصوصاً الأجيال الشابة نحو نفق مظلم لأسباب عديدة على أنني أجزم أنه لا يقف خلفها أي مؤامرة، كما ذكر صاحبنا من أن ما يجري هو مؤامرة أمريكية - إسرائيلية، لأن الواقع الذي نراه اليوم أن كل القنوات التي ذكر هي قنوات عربية وخليجية وسعودية، بل إن أكثرها قنوات سعودية أو بتمويل سعودي، ولهذا فإن مفهوم المؤامرة غير موجود، خصوصاً المؤامرة الأمريكية - الإسرائيلية، ولا أعتقد بوجود مؤامرة عربية - سعودية في هذا الأمر.
إن ما يحدث اليوم من اندفاع تلفزيوني، خصوصاً خلال شهر رمضان المبارك لا يبشر بخير لأسباب عديدة، منها أننا نفقد في هذه الشهر روحانيته التي تعد غذاء لنا طوال العام، خصوصاً مع الشباب من الجنسين وذلك لإصرارهم على متابعة المسلسلات والمسابقات التي ذكر صاحبنا أنها ربوية بسبب ما تأخذه من مبالغ كبيرة على المشاركة فيها، كما أنها من جهة أخرى تفسد أبناءنا بسبب عدم تقديرهم أهمية المال والحفاظ عليه واعتقادهم أن مثل هذه المسابقات هي أقصر الطرق لكسب المال دون عمل، وهذا أمر يحمل الكثير من الشر على مستقبل الأجيال المقبلة، كما أن العديد من المسلسلات لم يعد تحمل المضامين التربوية الهادفة، ولكنها وللأسف الشديد تأخذ منحنيات فنية رديئة، فالمسلسلات الخليجية أصبحت تركز على مسائل اجتماعية تخرج من حقيقة المجتمع الخليجي ويغلب عليها كثرة الحزن والنكد واستعراض النساء أجسادهن واستخدام مختلف أنواع عمليات التجميل التي تتركز في الوجه بحيث أصبحت أغلب الوجوه عبارة عن أشكال بلاستيكية لا حياة فيها وأجساما ممتلئة تذكرنا بالبقر الهولندية، يقابلها في الجانب الآخر مسلسلات عربية مكررة تحاول استقطاع الوقت بأحداث لا قيمة لها ولا أهمية إلى آخر السيناريو الذي لا يخفى على أحد منا، ثم بشكل خاص جداً الشباب السعودي من الجنسين، هؤلاء الشباب الذين يخسرون يومياً وقتهم ومالهم ودينهم دون وجود الرقيب التنموي الذي يحرص على مستقبل هذه الأجيال، ويعلم على اليقين أن ما نزرعه اليوم سنحصده غداً إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هو شهر العبادة والتزود بالتقوى وغذاء الروح لعام كامل تتضافر فيه الجهود لقراءة القرآن، ويؤكد فيه على الترابط الأسري والاجتماعي، وبخروجنا به عن أساسه وهدفه سنفقد الكثير مما نحن في أمس الحاجة إليه لبقائنا أمة قوية في وجه مختلف التيارات والاتجاهات، وهو ما لا يرضاه أي مسؤول أو مواطن مهما كانت أطماعه المادية من استغلال لهذا الشهر بالبرامج والدعايات والمسابقات، ولهذا دعونا نبقي رمضان كما عرفناه برامج محددة وقصيرة لما بعد الإفطار تكون هادفة وموجهة ولا تخلو من شيء من الترفيه البريء، ولا نجعل شهر رمضان شهرا للمسابقات الفنية والمسلسلات، وكأننا نقول للعالم إن شهر رمضان هو شهر الأوسكار العربي، كما لا يغيب عنا قول الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: "وإذا أردنا أن نُهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً".
وأعود لصاحبي الغاضب لأقول له كنتُ أتمنى أنك أعطيت الفرصة لنا لنحاورك ونُسمعك آراءنا ونؤكد لك أن مفهوم المؤامرة قد انتهى، وأننا نعيش في مفهوم جديد هو مفهوم التجارة والاستثمار وجمع الأموال ولا يهم جامعي الأموال الأثر السلبي الذي يحدث لمجتمعاتهم بسبب مثل هذا الجشع، كما أن الحالة واحدة بينهم وبين من يرفع أسعار المواد الغذائية أو مواد البناء أو يسرق في سوق الأسهم أو يجمع أموال الناس بغرض سرقتها وليس استثمارها والجميع في ميدان واحد وإن اختلفت الوسائل والأساليب، ولكن المواطن هو من سيدفع الثمن غالياً وستذكرون ما أقول لكم ولكن متى!!!!
وقفة تأمل:
"ارتفع عن ساقط الهزله واشوم والدري لو غرته دنياه خاب
والردي يطيح بالدرب معثور وخالص النيه يسير ولا يهاب
ولا يشوه وردتي نظرة حسود و لا يجرح لحظتي تايه صواب
الجميل يخلي العالم جميل لكن المشبوه يسعى بالخراب
نعمة ربي عطاناها كرم ليه نجحدها ونقلبها عذاب".
