عيد الاستبشار لا عيد الأحزان
يحتفل هذه الأيام المسلمون في شتى بقاع الأرض بعيد الفطر المبارك، جعله الله سبحانه وتعالى عيدا سعيدا وبركة على أمتينا العربية والإسلامية ولكل المسلمين، وأعاده الله علينا جميعا وقد تجاوزنا المحن والصعاب التي بتنا نعاني منهما ويئن منهما الجسدان العربي والإسلامي، وفي هذا العيد وبرغم قتامة أوضاعنا لن نردد صدر بيت الشعر الشهير "عيد بأية حال عدت يا عيد..." بل نستقبل عيدنا بكل الاستبشار والآمال الواسعة بأن الله سبحانه وتعالى سيرفع عن الأمة غمتها ويعجل بفرجها ويداوي جراحها ويعيد إشراقتها، وهذا الاستبشار وهذا الأمل ليسا مثاليين أو خياليين أو مجرد أحلام يقظة، فهذه الأمة تاريخها كله نضال وكفاح وجهاد، فقد عركتها الأحداث وصهرتها التجارب ولذا، زالت باقية راسخة تضعف أحيانا وتنهض وتقوى أحيانا أخرى كثيرة، ولكنها لا تندثر وتذوب وتنكسر مهما اشتدت عليها الصعاب والأزمات والكروب، فما مر عليها في تاريخها من الخطوب أشد مما تتعرض له وتعاني منه اليوم من حملات تتار وصليبيين واستعمار واحتلال وعدوان، فجميعهم انحسروا عنها وزالوا وبقيت شجرتها سامقة باقية تورق وتثمر في كل عصر من يرفع رايتها من جديد. وما تتعرض له أمتنا اليوم من هجمة شرسة من كل حدب وصوب ماديا ومعنويا لن يكون مصيرها بأفضل مما سبقها، فهذه الأمة هي أمة رسالة سماوية وإنسانية تستند لإرث حضاري وثقافي يضرب بجذوره في عمق التاريخ الإنساني، ولديها مخزون يؤمن لها النهوض من جديد وصد ما تتعرض له من هجمات وعدوان وتعد. إلا أن ذلك مرهون بتغيير الحال من حالة الخمول والانكسار إلى حالة التصدي والمواجهة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فهذه قاعدة قرآنية للبشر جميعا، فلن يغير الله ما نحن عليه من استقواء الغير علينا بسبب وهننا وضعفنا إلا حين نستنهض هممنا ونغير أنفسنا من داخلها أولا مستلهمين تعاليم ديننا الصحيحة ونتمسك بها ونجعلها منهاج حياتنا وأولها أن تجتمع كلمتنا على الحق والخير اجتماع رجل واحد، لا أن نكون فرقا متفرقة يسهل السيطرة عليها واستلابها. ولهذا قال رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام (إن يد الله مع الجماعة)، فكلما اجتمعت كلمة الأمة بكاملها على كلمة سواء في كل أمورها بلا تفرق، قويت شوكتنا وشد الله من أزرنا ومدنا بقوته وحيله.
في هذا العيد تئن الأمة من وضع وحال إخوة لنا في العراق الذين ابتلاهم الله بعدوان واحتلال جاءهم بقضه وقضيضه بدعوى تحريرهم من عبودية الدكتاتورية، وإذ به يحول العراق اليوم إلى أرض فتن وقتل ودماء مسفوحة لا يعرف فيه القاتل ولا لماذا قتل المقتول، وجاء هذا الاحتلال بزرع الفتنة الشيطانية لتمزيق العراق إلى دويلات طائفية وعرقية بعد أن كان دولة واحدة من أجل أن يتناحر فيها وعليها الجميع، وفي فلسطين إضافة إلى ما يتعرض له إخوتنا هناك من عدوانية العدو وبغيه وجبروته، ها هم الفلسطينيون وقد تحولوا لإخوة أعداء، فبدلا من أن يوحدوا صفهم لمواجهة عدوهم وعدونا المشترك، إذ بهم يتقاتلون ويتناحرون على سلطة باهتة لا توجد على أرض الواقع بل على ورق بال لا قيمة له. والعراق وفلسطين هما جرحا الأمة الداميان اليوم وأشد مما تتعرض فيهما من كرب وخطب، وما يتعرضان له وقتنا الراهن من عدوان وبغي ما هو إلا امتحان جديد لها ستتغلب فيه لأنها أمة كتب لها البقاء والاستمرار بما تمتلكه من قدرات وحضور ووجود راسخ في التاريخ، ولهذا فالاستبشار بالنهوض استبشار مبني على معطيات تاريخية وحضارية وسماوية لن تخيب بإذن الله، وأن غدا لناظره قريب، فهذه الأمة أمة ولادة لمن يحمل شعلة النهوض من الكبوات الصعبة، وليس علينا الآن إلا أن نشيع روح الاستبشار ونبث دواعي الآمال ونستنهض الهمم الفردية قبل الجمعية، فالفرد إذا صلح صلح المجموع، والتغير يبدأ من تغيير أنفسنا وطرق تعاملنا وغرس المصداقية والأمانة والهمة في كل فرد لينعكس على عطائه وعمله، فالدين المعاملة.
نعم نقولها بثقة الواثق كل عام والأمة بخير، كل عام وأوطاننا العربية والإسلامية بعزة ومنعة وأمن وسلام، كل عام وقادتنا جميعا سياسيون وغير سياسيين وقد أنهض الله بهم الأمة وأصلحهم لها، كل عام وشعوبنا وقد استلهمت روح السابقين الذين صنعوا حضارة وسادوا الدنيا ونشروا الدين، كل عام وهذه البلاد قبلة المسلمين ومهبط الوحي وثراها يتطيب بالحرمين الشريفين وقد زادها الله رفعة وسيجها بأمنه ورد بغي كل باغ عليها في نحره.