التخصص القضائي في ظل النظام الجديد
قبل أن يتوج نظام تطوير القضاء بالمرسوم الملكي قبل أيام, كان العديد من اللجان التجارية, المصرفية, والعمالية.. إلخ, تمارس دورها خارج البيت القضائي, وتقوم بوظيفة فض النزاع خارج المنظومة القضائية, أي أنها كانت تغرد خارج السرب! وكان هذا الواقع سبباً في إضعاف السلطة القضائية, وتشتيت العمل القضائي بين جهات متعددة, فضلاً عن كون الكثير من هذه اللجان لم يظفر بكفاءات شرعية, تعمل جنباً إلى جنب مع الكفاءات الأخرى المتخصصة التي يتطلبها عمل تلك اللجان, إلا أنه بعد صدور هذا النظام, عادت المياه إلى مجاريها, وبقي الآن وضع هذا المرسوم الملكي موضع التنفيذ, وذلك بجمع شتات هذه اللجان تحت مظلة المحاكم الشرعية, ويبقى على الجهات القضائية العليا عبء تأهيل القضاة التأهيل العلمي الكافي, الذي يمكنهم من البت في العديد من القضايا المستجدة والمعقدة عبر هذه المحاكم المتخصصة التي جاد بها النظام الجديد. وهنا أقول: إن التخصص الدقيق في هذا العصر أصبح ضرورة ملحة, وأضحى العديد من الجهات الحكومية والعلمية والبحثية في العالم, يعطي هذا الجانب حقه من العناية والاهتمام, وذلك لأن التخصص الدقيق يورث التميز والإبداع, كما أنه يحمي الذهن من التشتت والانقسام, ولا سيما في ظل ما يفرزه العالم اليوم من تقدم علمي في كل المجالات, أسهم في العديد من الأحيان في تعقيد الكثير من القضايا المعروضة في المحاكم, سواء ما يتعلق منها بنوازل المعاملات المالية, أو الخدمات, أو ما يتعلق منها بالجرائم الإلكترونية, أو أساليب النصب والتزوير.. إلخ, وبهذا لم يعد التخصص العام كافياً لنظر مثل هذه القضايا المعروضة في المحاكم, بل لا بد من حصر نظر القاضي في قضايا محددة, وحشره في زوايا ضيقة حتى يستطيع أن يلم بتفاصيلها, وخلفياتها, وخباياها. وهنا يأتي السؤال الملح, وهو: هل يكفي أن يتأهل القاضي للقضاء في هذه المحاكم المتخصصة من خلال الدراسة النظرية في مرحلة البكالوريا والماجستير وبالملازمة عند القاضي لفترة سنة أو نحوها؟ أعتقد أن هذه المراحل التي يمر بها القاضي - فترة الملازمة - من الأهمية بمكان, فهو يجمع فيها بين الدراسة النظرية وبين العملية التطبيقية, ولكن هذا التأهيل في تقديري يحتاج إلى معالجة ألخصها في النقاط الآتية:
أولاً: الدراسة النظرية في كلية الشريعة وفي المعهد العالي للقضاء مع ما يقرر فيها من مواد تخصصية مهمة جداً للقاضي- سواء ما يتعلق بالمواد الشرعية عموماً بالكلية, أو ما يتعلق بمواد التخصص في المعهد العالي كمادة المرافعات الشرعية, أو طرق الإثبات, أو الأنظمة القضائية, أو مادة العقد.. إلخ - إلا أن النظام الجديد يتطلب مواكبة التخصصات الجديدة للمحاكم, وذلك بإضافة مناهج أخرى تتعلق بما استجد من تخصصات. ومما يحسب لجامعة الإمام عموماً, وللمعهد العالي للقضاء على سبيل الخصوص, أنه أخذ بزمام المبادرة منذ سنين عدة للرفع من مستوى تأهيل القضاة, عبر تنظيم العديد من الدورات المتخصصة وحلقات النقاش مع قضاة وزارة العدل وديوان المظالم, ومع بعض الجهات المساندة لعمل القضاء كهيئات التحقيق والادعاء العام, وكتاب العدل, وهذا رافد آخر مهم من روافد التأهيل, إلا أن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن يبقى المعهد العالي بمعزل عن عملية التطوير, بل هو معني بهذا الموضوع بشكل أساس, مع المحافظة التامة على كيان المعهد كجهة أكاديمية متخصصة, وهذا الموضوع في حد ذاته يحتاج إلى مقال خاص للتأكيد على هذه القضية.
ثانياً: إن ملازمة القاضي يجب أن توضع لها آلية محددة, تحدد أسلوبها, وتنظم فيها العلاقة بين الملازم والقاضي, وما ينبغي على القاضي عمله تجاه الملازم, بحيث يستطيع الملازم القضائي أن ينهل منه المنهج الأمثل والأسلوب الأكمل في القضاء وإصدار الأحكام وطرق تسبيبها, من أجل أن تتحصل لديه الملكة القضائية لذلك, لا أن يكون مجرد كاتب, كما هو الحال في كثير من الأحيان.
ثالثاً: أرى أن مرحلة تدريب القاضي يجب أن تمر بمحطات تدريبية متعددة, وذلك بأن يمارس الملازم عمل العديد من الجهات المساندة للقضاء, فيمارس عمل المحقق والمدعي العام فترة زمنية معينة ـ ثلاثة أشهر مثلا - كما هو الحال في مصر, حيث يمر القاضي بالنيابة العامة, وهذا جانب إيجابي ينبغي أن يستفاد منه - ثم يمر بالأدلة الجنائية ليبقى فيها مدة أسبوعين مثلا, يرقب فيها عمل المتخصصين في هذه الأدلة الجنائية المتطورة, وهكذا, ومرور القاضي بهذه الجهات المساندة ونحوها من شأنه أن يعزز ما لديه من معلومات نظرية, فيتشكل من هذا الأسلوب النظري والتطبيقي حالة نضج تجعل لدى القاضي الملكة القضائية الكافية لمواجهة ما يعرض عليه من قضايا, وتسهم في تعجيل نظر الكثير من الخصومات, كما تمحو قسمات الحيرة التي تبدو في محياه أمام العديد من القضايا المعقدة, وإن كان عامل نقص القضاة يشكل عقبة كأداء أمام هذا النوع من التأهيل! وحتى لا أكون مثالياً أكثر من اللازم, أقول: إن على الملازم في ظل هذه الأوضاع المتسارعة أن يبادر إلى تطوير ذاته عبر مشاركته في الدورات التدريبية المتخصصة, وعبر زيارة العديد من الجهات ذات الصلة بالقضاء, سواء منها ما يتعلق بالأدلة الجنائية, أو بالمصارف والبنوك, أو بالعمل والعمال... إلخ, وقد كان لبعض القضاة في الماضي تاريخ حافل من هذا الأسلوب العملي, الذي يلمس أثره عند ممارسة عمل القضاء.
وأخيراً, فإن النظام الجديد إذا كان قد سمح بقبول تعيين القضاة من خريجي برنامج دراسة الأنظمة من معهد الإدارة, فهذا يعني أن المعهد يجب أن يسارع هو الآخر إلى إصلاح مناهجه لتستوعب الأحكام الفقهية للشريعة الإسلامية حتى يتمكن المتخرج في هذه الجهة الدراسية أن يكون قاضياً شرعياً, ولا يخفى أن الدولة هنا في بلاد الحرمين تحكم بالشريعة الإسلامية, كما نص عليه النظام الأساسي للحكم, ولا حل لهذه المعادلة إلا بتعديل مناهج معهد الإدارة حتى تسمح بتخريج طلاب مؤهلين للقضاء الشرعي, والله وحده الموفق والهادي.
أستاذ الفقه المساعد في المعهد العالي للقضاء