هذا العنوان اختاره أحد أعمدة المستشارين الأمريكيين في العراق ويدعى وليام باش، وكان يشغل منصب نائب رئيس مكتب القيادة والقيم والمبادئ العسكرية في بغداد عندما تأسس هذا المكتب عام 2006، وله خبرة تقترب من 30 عاما في خدمات الجيش الأمريكي، حيث خدم في ألمانيا وفيتنام وإيطاليا وتركيا والأردن ومصر. وفي سنة 2005 شغل منصب الرئاسة الخاص بمكتب الصليب الأحمر في الجزائر ورئيس فرق الإنقاذ في نيو أورليانز بعد كارثة إعصار كاترينا إلى جانب عمله في كوستاريكا والسلفادور وجواتيمالا والمكسيك.
هذا الطراز من الرجال هو النوع الجديد من الكوادر الذي تزرعه الولايات المتحدة لتحقيق أهداف محددة. والهم الأكبر لدى الأمريكيين الآن بعد هلعهم على مصالحهم النفطية واستمرار هيمنة إسرائيل هو الكراهية الهائلة التي يكنها المسلمون للأمريكيين بعد اعتداءاتهم بذرائع مختلفة على أفغانستان والعراق واحتلالهما، فيما يفسره خصومهم بأنه هبوط لجناحي النسر الأمريكي لتغطية موارد الطاقة حيث تنتهي اللعبة عند النيجر وإفريقيا الوسطى وتشاد ودارفور في غرب السودان تغطية للشرق الأوسط، والمنطقة كلها مسلمة.
يعبر الكاتب في دراسة مستفيضة عن التوجه الاستراتيجي الأمريكي تجاه العراق، ويعرب عن إحباطه لفشل السياسة الأمريكية حتى الآن في حسم الموقف في العراق حسبما توقع صقور الحروب تشيني ورامسفيلد ووولفووتز ورجال الشركات (شيفرون – تكساكو وغيرهما مثل بكتل وهالبرتون... إلخ). وقد أعرب الرئيس الأمريكي بوش عن رغبته في بناء عراق "ديمقراطي" يصلح نموذجا يحتذى من جانب كافة الدول العربية والإسلامية. وبالمناسبة، فإن هذه الحملة بحذافيرها تمثل السياسة الإعلامية والخطة الثابتة لأعضاء الحملة الإعلامية الأمريكية في المنطقة الذين تمولهم الوكالة الأمريكية لخدمات الإعلام USIS.
وقد اختار الأمريكيون ـ على حد تعبير "باش" وليس "بوش" ـ الجيش وسيلة لتحقيق هذه السياسة، وعهد إلى الجيش بإنشاء بنية أمنية يمكنها أن تحارب الإرهاب (المقصود هو المقاومة)، وتزرع القيم الديمقراطية ويشرف عليها كوادر مختلفة (لم يحدد هل الإخلاص لبلادهم أم لواشنطن), غير أن كل الجهود التي تم بذلها لنقل القيم الأمريكية للعراق قد باءت بالفشل التام، حيث كان العراقيون يجتمعون مع ممثلي جيش الاحتلال الأمريكي وينصتون إلى آرائهم حول أفضل الحلول لـ "العراق"، ولكنهم كانوا ينتهون من هذه الاجتماعات لتنفيذ ما يرون أنه الأفضل حسب مرئياتهم وخلفياتهم وانحيازاتهم. ويدعي باش أن ممارسات العراقيين كانت تتسم بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان واختيار القادة بمعايير المحسوبية. وبطبيعة الحال لمن يتعرض باش في دراسته لانتهاك الأمريكيين حقوق الإنسان؟
في الخلفية التاريخية للدراسة يقول باش إنه قبل نهاية الحرب العالمية الأولى لم تكن هناك دولة اسمها العراق، ناهيك عن وجود جيش عراقي، ونظرا لانعدام العراقة فإن تشكيل جيش جديد بمفاهيم وقيم أمريكية يعد تحديا بسيطا خاصة مع شعار جورج بوش القائل: بضرورة زرع قيم تكفل تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد أنفقت أمريكا المليارات (من ثورة الشعب العراقي) لتحقيق هذا الحلم وهو عراق حر في قلب الشرق الأوسط (غير الحر كما يفهم من الشعار والإعلانات المصاحبة له في كافة المحطات التي تبث بالعربية)، ليكون أول تدفق لينبوع الحرية في قضية الثورة الديمقراطية.
ويقول باش إنه قبل الغزو الأمريكي للعراقي في 2003 كان الهم الأعظم لقوى الأمن هو تكريس الهيمنة السنية في بغداد، وفي ظل نظام صدام حسين كان الجيش العراقي وقوى الأمن تسيطر على الأمن الداخلي. وقامت بقمع ثورات الأكراد والشيعة (التي أشعلتها واشنطن) وهاجم إيران (بدعم أمريكي واضح تتنكر له واشنطن الآن) ثم حدث الانفصام عندما أقدم صدام على غزو الكويت بعدما أقنعته أبريل جالاسي (المختفية إلى الأبد منذ ذلك الغزو) أن بلادها لا ترتبط بمعاهدات عسكرية مع الكويت تلزمها بحمايتها. وحارب صدام قوى الغزو الأمريكي – البريطاني في 1991 و2003.
من ناحية الواقع كان الجيش العراقي – الذي بالغ الأمريكيون في تفخيمه كيانا ضعيفا تفرغ لأعمال أمنية داخلية منذ 1991، ويصف باش هذا الجيش بأنه كان كيانا فاسدا لا يناقش الأوامر غير الأخلاقية (كما لو كان بوسع أي جيش في العالم أن يناقش حماقة قرار سياسي!)
وقد ركز صدام حسين اهتمامه على الحرس الجمهوري والحرس الخاص وزرع على رأس الجيش قيادات سنية. وبعد حرب الخليج الثانية 1991 زادت عمليات التطهير في الجيش حتى سقوط صدام وتبعها زرع أهل الولاء بغض النظر عن كفاءتهم.
أما الجيش الذي يريده بوش وباش فهو كيان عسكري عمله القضاء على (الإرهاب) واحترام القانون. وفي هذا الصدد يشجع بوش تنويع القيادة وإعطاء الفرصة للشيعة والأكراد ليتساووا مع السنة، وفي الواقع أن الإحلال والإبدال أصبح شاملا بحيث أصبح الجيش تحت الهيمنة الشيعية الكاملة حتى أن بوش بدأ يخشى سيطرة إيران على الجيش، أما الأكراد فقد انكمشوا في محالهم الحيوية في الشمال ولا يمثلون قوة في هذا الجيش ونظرا لأن القوة كانت الأداة التي اختارها الأمريكيون لزرع القيم، فإن القياسات التالية أثبتت فشلها الذريع.
أول ما أزعج الأمريكيين لدى تعاملهم مع الجيش العراقي هو الثقافة السائدة في هذا الجيش. ذلك أن كبار الضباط كانوا يحذرون ويخشون مرؤوسيهم من الرتب المتوسطة خاصة إذا كانت لهم شخصية قوية، وكانت الاستخبارات الحربية تقضي معظم وقتها في مطاردة هذا الطراز من الضباط ووقفهم عند حاجز الترقيات ولم يخدم الضباط هنا إلا الولاء. حيث كانت القيادة البعثية العليا تتوجس الشر من ضباط المراتب المتوسطة حسبما تعلموا من تاريخ انقلابات قاسم وعارف السعدي والبكر.. إلخ.
ويزعم باش أنه لم تكن هناك معايير موضوعية تتعلق بالكفاءة ولم تكن هناك طرق لقياس القدرات الحقيقية للضباط.
وكانت المحسوبية والوساطة هي كل شيء، وكان البعض يحمل مؤهلات على الورق، ولكنه في الحقيقة لا شيء.
أما صغار الضباط فكان من الحكمة بالنسبة لمستقبلهم ألا يبدوا أي نوع من المبادرة أو أي نوع من توقع ما هو مطلوب منهم ولم يستعينوا بصف الضباط لدعمهم في جهود التنظيم والانضباط وإعداد الجهود لمهام القتال الصعبة والحقيقية. ولذلك كان عليهم كضباط القيام بمهام صف الضباط، وهؤلاء بدورهم لم يتلقوا قدرا مناسبا من التعليم بل إن بعضهم كان أميا. ويزعم باش أن تدريب الشيعة والأكراد اقتصر على أقل القليل من المهارات بينما حظي السنة بالاهتمام في التدريب وفي حرب 2003 قاوم هؤلاء الأمريكيين والإنجليز لمدة 40 يوما ولم يستسلم الجيش العراقي أما كتائب صدام والحرس الجمهوري فقد ذابت تماما، ومن الواضح أنها تلقت تعليمات بشن حرب غير نظامية من الواضح أنها ناجحة حتى الآن بدليل غرق الأمريكيين في المستنقع.
تتواصل الدراسة فيذكر كاتبها أن بغداد بعد سقوطها في أيدي المحتل الأمريكي في نيسان (أبريل) 2003 شهدت عمليات سلب ونهب واسعة النطاق هي وغيرها من المدن، وفشل الجيش الأمريكي أو تقاعس عن مقاومة ذلك، ربما لأنه من الناحية العسكرية والانتقامية كان أفضل لهم، ودعونا ننسى ادعاءات جنيف وغيرها من السخافات التي لا تحرك شعرة في رأس واشنطن.
وأطلق رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي وقتئذ عبارته الشهرية: "إن الحرية تتسم عادة بالفوضى وتحمل في ثناياها الكثير من سلوك الأوغاد، والأحرار يقعون في الأخطاء ويرتكبون الجرائم ويمارسون أعمالا قذرة". وبدا للجميع أن قوات الاحتلال ليس لديها مخطط لإدارة البلاد بعد احتلالها، وفشلت سلطة التحالف المؤقتة بقيادة السفير المتقاعد بول بريمر في إنجاز أي شيء فالرجل لا يعرف شيئا عنها ولم يزر العراق أبدا، ولا يتكلم العربية وكل ما حاول فعله هو تدمير البعث بقوانين إلغاء البعث، وكانت النتيجة طرد جميع الموظفين أعضاء حزب البعث وفي دول مثل العراق، فإن حزب الحكومة يغري الجميع حتى المعارض لينال نصيبا من الكعكة، وهو ما يجهله بريمر، ولم يمنح هؤلاء أي تعويضات أو معاشات، وكان من بين هؤلاء أفضل من يمكنه ممارسة الإدارة وتسيير العمل في الوزارات والأجهزة الأمنية.
وانهارت البلاد حيث تم نهب ثروات البلاد وطرد الموظفون وهكذا أدت الانتقامية الأمريكية إلى تدمير العراق كبلد بعدما أوقعت به الهزيمة العسكرية.
وفي 23 أيار (مايو) 2003 أصدر بريمر - بكامل الجهل والسذاجة – قرارا بحل وتسريح الجيش وأجهزة الأمن. وتم التطبيق بطريقة تعسفية وشرب بريمر ثمار غبائه وتولى هؤلاء قيادة المقاومة وعمت الفوضى وزاد العنف. ولعل هذه الأيام كانت التربة المعادية التي حالت دون نجاح الأمريكيين في زرع قيمهم.
وللقصة بقية.
