فيما يتعلق بالاستهلاك يتصرف الناس في كل مجتمع بطريقة نمطية تتشكل بفعل عدة عوامل أهمها مستوى دخول الأفراد أو التقليد والمحاكاة الاجتماعية. وهذه النمطية تبرز بشكل أكبر في استهلاك المنتجات الغذائية، حيث يتميز كل مجتمع بثقافة استهلاك غذائي معينة تشكل الشخصية المميزة لهذا المجتمع. فالإيطاليون معروفون بالإسباجيتي والأمريكيون بالستيك والإنجليز بالبطاطا واليابانيون بالسوشي. وهذه النمطية أو الشخصية الغذائية لكل مجتمع تتشكل من الموارد الغذائية المتوافرة لديه كالحبوب أو اللحوم المتوافرة. ومع بروز العولمة الاقتصادية وتحرير التجارة بين الدول بدأت ملامح الشخصية الغذائية لكل مجتمع تختلط مع المجتمعات الأخرى وبدأت مجتمعات بما توافر لديها من موارد مادية إضافية في استيراد أنماط غذائية من دول أخرى ليتشكل نمط غذائي جديد في هذا المجتمع. مما جعل النمط الاستهلاكي الغذائي المحلي نمطاً غير مستقل ومستعمرا من قبل قوى اقتصادية خارجية، بل وتعدى الأمر ذلك إلى أن أصبحت هذه الأنماط الغذائية جزءاً من تراث المجتمع مع أنها لا تمت لموارده الغذائية بصلة، فتحولت العادة إلى عبادة، وأصبح الكمالي ضروريا، وأصبح الناس في استهلاكهم الغذائي أسرى للظروف الجوية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلد قد يبعد عنهم آلاف الأميال.
وفي الفترة الأخيرة فوجئنا بالارتفاع الكبير في أسعار الأرز الذي أصبح مع الزمن ومع تحسن الظروف المادية للمجتمع الوجبة الرئيسة اليومية التي لا غنى للمواطن السعودي عنها على الرغم من عدم كونه أحد منتجاته الزراعية الأساسية. فحل الأرز محل الجريش والقرصان والأطباق التقليدية الأخرى التي كان البر المنتج محلياً مصدراً أساسياً لها. وبدا للكثيرين أن هناك مؤامرة تحاك ضد محبوبة الملايين (الكبسة) حتى تجاذب الناس الاتهامات من كل جانب، فمن متهم للشركات بالتآمر لرفع الأسعار، ومن متهم لوزارة التجارة بالتقصير في مراقبة الأسعار وفي محاباة التجار، ومن متهم للمصدرين بالتواطؤ من أجل رفع الأسعار واستنزاف مدخرات المواطن. ولا أختلف مع أحد في أن هناك مبالغة في ارتفاع أسعار الأرز محلياً وفي ضعف الإشراف من قبل وزارة التجارة وعدم توافر وسائل رقابة مستقلة لديها يتم بموجبها مراقبة المخزونات من السلع الرئيسة ورصد التغيرات في الأسعار. لكن لندع هذه الأمور جانباً ولنتساءل عن مدى تأثير النمط الاستهلاكي في المملكة على أسعار الأرز. المتابع لواردات المملكة من الأرز يلاحظ ارتفاع هذه الواردات بشكل مطرد خلال السنوات الأخيرة حيث تضاعفت تقريباً حجم واردات المملكة من 750 ألف طن عام 1999 وحتى بلغت 1000 طن في عام 2003 وهي السنوات التي توافرت على بيانات لها. مما يعني أن استمرار هذا التزايد خلال السنوات اللاحقة سيؤدي إلى مضاعفة واردات المملكة من الأرز منذ عام 1999 وحتى عام 2007. أضف إلى ذلك أن المملكة في عام 2003 بلغت المرتبة الخامسة في ترتيب مستوردي الأرز في العالم بعد كل من إندونيسيا وإيران ونيجيريا والعراق، كما أنها تستهلك كمية أكبر من الصين ـ أكثر الدول تعداداً للسكان. هذا التزايد المطرد في واردات المملكة من الأرز ارتبط بشكل كبير بعدة أنماط استهلاكية مستجدة على هذه السلع. من هذه الأنماط تزايد المطاعم الشعبية في المملكة التي تقدم وجبات الكبسة والمندي وغيرها من الأطعمة التي يعد الأرز محتوى أساسيا فيها. إضافة إلى ارتباط ذلك بتزايد أعداد الاستراحات الخاصة والتي شكلت هي الأخرى طلباً موازياً وعاملاً في زيادة أعداد المطاعم الشعبية. أي أن تحول النمط الاستهلاكي من الاستهلاك المنزلي العادي إلى الاستهلاك الزائد عن الحاجة أو الاستهلاك الترفيهي يعد عاملاً حاسماً في زيادة طلبنا على الأرز ومن ثم زيادة وارداتنا منه والتي نتجت على ارتفاع في أسعاره. وبالطبع لم يكن لهذا الأمر تأثير كبير في الأسعار في السابق، ولكن في ظل ظهور مستهلكين منافسين في كل من: الهند، الصين، وإندونيسيا نتج بشكل أساسي عن تحسن الدخول في هذه البلدان الثلاثة والتي تشكل نصف سكان العالم، وفي ظل محدودية الإنتاج للأرز، حيث لا يتم حصاده إلا مرتين في العام في مقابل استهلاكه طوال العام، فقد نتج عن ذلك تنافس شديد في المحصول أدى بشكل طبيعي إلى ارتفاع أسعاره.
الصورة المستقبلية ستكون أسوأ فيما يتعلق بأسعار الأرز، حيث أعلنت الهند الأسبوع الماضي منع تصدير الأرز من الأنواع الأخرى غير البسمتي مما يرجح ارتفاعا آخر في أسعار الأرز بمقدار 10 في المائة. ويؤكد ذلك انخفاض أسعار المستقبليات للأرز في بورصة شيكاغو للسلع، والتي تعني أن الأسعار المستقبلية مرجحة للصعود. إضافة إلى ذلك فقد أعلن كل من إندونيسيا والصين في وقت سابق هذا العام رغبتيهما في استيراد المزيد من الأرز هذا العام من الدول القريبة منهما ـ يقصدان بالطبع الهند. كل ذلك يشير إلى ارتفاع مستمر في سعر الأرز مما يعني أن الطريقة المثلى للتعامل مع مثل هذه المشكلة هي تغيير نمط الاستهلاك المحلي، فوداعاً للكبسة ومرحباً بالجريش والمرقوق وكل عام وأنتم بخير.
