الزمان والمكان السعوديان
عندما تصل إلى الرياض وربما إلى أية مدينة في المملكة وتنزل إلى الشارع بسيارة فهنا تجد نفسك أمام حالة استقبال فريدة، استقبال يتميز بقوانين مرور تنفرد بها بلادُنا وسائقوها. فالذوق هو آخر ما يعنيهم، والتسابق إلى المخرج وإلى المدخل وإلى الموقف وإلى الإشارة وإلى الانطلاق من الإشارة هو مبدأ فن "السواقة" وذوقها، والشاطر من سبق، والأشطر لم يترك فرصة للذي أشعل مؤشر سيارته وطلب ترك مساحة له ليدخل إلى الخط أو ليلف أو يخرج من طريق. إننا نتحدث في غالب الأحيان عن طريق مغلق بإشارة مرور حمراء آنذاك ولكن "ولو". لا أدري ماذا تعني لنا مسألة التعازم عند الدخول إلى منزل أو الخروج من مكان وإصرار كل منا ليتقدمنا الآخر وما يرافق ذلك من حلفان وأيمان و"ما يصير.." و"ما يجوز.." و"لك الحق.." إلخ.. من مفردات لياقة اجتماعية تنتهي عندما نكون في الشارع وربما حيث نعتقد أن لا أحد يعرفنا ولا شيء يجمعنا أو يمكن أن يحاسبنا، أو أن قوانين السير لا تنطبق عليها تقاليد الكرم والشهامة الاجتماعية العربية. طبعاَ هذه ظاهرة لا يمكن أن تُذكر في بلاد "الكفار" إذ إن الناس هناك لا يتحركون في شوارعهم إلا بتنبيه لمن هو أو هي خلف سيارتك بإشارة وافية ولا أحتاج عندما أدخل خطاً سريعاً من طريق جانبي أن أمضي طويلاً أطلب الإذن في الدخول إذ إن السيارة التالية تحيد إلى المسار التالي مباشرة وبكل سلاسة، وبوق السيارة لا ينطلق إلا نادراً حتى أن ابني لم يسمعه إلا مرة واحدة ومن سيارتنا عندما أردت أن أنبه سيارة اندفعت نحونا خطأ فأصبحت القصة التي يذكرها كل حين حتى عدنا وأصبح كلما يسمع بوق سيارة يعتقد أن هناك سيارة تريد أن تصدمنا، وهي حالات كثيرة لا تُعد. وخلال شهري الإجازة لم أسمع أي بوق ينطلق عند إشارة بعد فتحها فالكل ينتظر بكل ذوق انطلاق السيارة الطبيعي، مما يذكرني بما يذكر عن "الثانية" السعودية التي تقاس بما بين فتح إشارة المرور وبين انطلاق أول بوق سيارة.
هل اكتفت قائمة المنغصات منذ العودة من الإجازة؟ ربما لا، إذ تتوالى قصص الجرائد والجوال والإنترنت حول ما أعده فضائح التربية لدينا. ثلاثة توائم بمعدلات ما بين 97.5 و99 في المائة لا يجدن قبولاً في أي جامعة من جامعاتنا العتيدة. هل أقارن ماذا سيكون الحال لو هؤلاء كن خريجات في دولة أخرى؟ هل يمكنني تعداد الجامعات التي ستتسابق لتحظى بموافقتهن على الالتحاق بها مقدمةً لهن المنح والميزات والمغريات؟ لا جامعاتنا الحكومية ولا الخاصة لديها حس المبادرة، ولم تتجاوب إحدى الجامعات إلا بعد ذيوع الخبر على صفحة الجريدة الأولى ولم تتجاوب إلا لصالح واحدة من الفتيات الثلاث، وأخيرا تجاوبت وزارة التعليم العالي وقررت أن تقدم لهن منح ابتعاث خارجي. يبدو أن لدينا فائضا في التفوق والتميز والقدرات الإبداعية حتى نفرط فيها أو نترك بناتنا من غير خيارات.
ثم نجد قصة الإبل النافقة، رمز عروبتنا التي لم تتشكل لمتابعة موضوعها أو تحقق في قضيتها لجنة مستقلة محايدة حتى نفق قرابة الثلاثة آلاف جمل وناقة وكل جهة تتنصل من مسؤوليتها وحتى بعد أن ثبت أن المشكلة متصلة بالأعلاف إلا أننا لم نشهد أي إجراء يسعى إلى محاسبة المتلاعبين بمكونات الأعلاف أو طريقة تخزينها وغير ذلك. ثم قصة إجبار الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) النساء المتسوقات في الأسواق الشعبية في حي البلد في جدة على تناول طعام إفطارهن وهن واقفات بدلا من الجلوس خوفا من اختلاطهن مع الرجال، منطق غريب ويمر في بلادنا دونما تترتب عليه مساءلة أو محاسبة أو معاقبة للتعدي على كرامة وإنسانية هؤلاء النسوة أو حتى استنكار على المستوى العام.
أما القصة الأبرز فهي أزمة الغلاء وطريقة تعامل المسؤولين معها. غلاء كل شيء ابتداء من أقصر إبرة إلى أطول عمارة وما بينها كان الرز وما أدراك ما الرز، أصبحنا نتابع قوائم أسعار وبورصات الرز والخضار ما بين تندر المسؤولين وصراخ المكلومين حتى تحرك مجلس الشورى وأخذ على عاتقه، ربما لأول مرة، أن يهتم بالقضايا الشعبية دون طول مطالبة.
ولكن بعد مضي بعض من الوقت أخذت "أتأقلم" ثانية وأعتاد على الذوق السعودي والثانية السعودية والمحاسبة السعودية والتوقيت السعودي، إلى أن يشاء الله.
وقصص أخرى وأخرى، وكل عام وأنتم بخير.
* مؤرخة وكاتبة سعودية