أصبح الناس كثيرا ما يلجأون إلى الاقتراض لسداد حوائجهم والقيام بشؤونهم, وذلك نظرا للزيادة الكبيرة في مصروفات المعيشة التي تتطلبها الحياة المعاصرة, إضافة إلى المبالغة في الكماليات والتحسينات.
وكثيرا ما يتساءل الناس حول مسائل مهمة هل في هذه الديون زكاة؟ وهل من عليه دّين يزكي أم يسدد ديونه؟ وماذا يفعل من يتكرر اقتراضه بشكل كبير؟ ولماذا يختلف الفقهاء في مثل هذه المسائل؟ وكيف نراعي في كل هذا حق الفقير وحق صاحب المال منطلقين من لا ضرر ولا ضرار؟
أقسام الدّين
في البداية يتحدث الشيخ عبد الله عايضي الباحث والمتخصص في فقه المعاملات عن أقسام الديون فيقول:
ينقسم الدّين إلى أقسام متعددة باعتبارات عديدة, لعل من أهمها:
الدّين الحال: هو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن، ويقال له : الدين المعجل.
والدين المؤجل: هو ما لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل، لكن لو أداه قبله صح، ويسقط عن ذمته.
ويمكن تقسيمه أيضا إلى:
الدّين المرجو: وهو الدّين المقدور عليه، الذي يظن الدائن ويأمل اقتضاءه؛ إما لكون المدين مليئا مقرا بالدين باذلا له، وإما كان المدين جاحدا للدين، لكن لصاحبه الدائن عليه بينة. وإنما سمي كذلك من الرجاء الذي هو في اللغة: ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة.
والدّين غير المرجو: وهو الدين الذي لا يظن صاحبه قدرته على استيفائه؛ لكون المدين معدما، أو لجحوده مع عدم البينة، أو لسبب آخر.
من أين نقع في الديون؟
ويقول العايضي: تختلف الأسباب التي ينشأ عنها شغل الذمة بالدّين، ويمكن إجمال الأسباب التي ينشأ عنها الدين في النقاط الآتية:
* عقود المعاوضات: كالبيع ، الإجارة ، السلم، ونحوها.
* القرض: وهو "دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله".
* أروش الجنايات وبدل المتلفات.
ويمكن اعتبار الديون التي تنشأ عن عقود المعاوضات الأكثر انتشارا في هذا العصر ولا سيما مع ظهور شركات التقسيط التي اتخذت من عقود المرابحات للواعد بالشراء مصدرا رئيسا لأرباحها. ويلجأ كثير من الناس إلى عقود التمويل التي تجريها المصارف أو شركات التقسيط إما لسد حاجات أصلية أو لتمويل مشاريع استثمارية، ومن الصفات الملازمة لهذه العقود أن الثمن فيه مؤجل، وهذا الثمن يؤدى على أقساط، إما أن تكون شهرية كما هو الغالب أو سنوية حسبما يتفق عليه طرفا العقد.
هل الدّين يمنع الزكاة؟
يتساءل كثير من الناس لو كنت أملك مثلا مليونا لكني مدين بـ 500 ألف فهل أزكي مليونا كاملا أم أحسم منه الـ 500؟ يقول الشيخ الدكتور عبد الله الغفيلي مجيبا عن هذا السؤال: هذه المسألة كانت محل بحث عند الفقهاء, رحمهم الله, وكذلك كانت محل خلاف عندهم بعد اتفاقهم على بعض الصور, فقد اتفق الفقهاء على أن الدّين لا يمنع وجوب الزَّكَاة إذ ثبت في ذمة المدين بعد وجوب الزَّكَاة, كما اتفقوا على أن الدّين لا يمنع وجوب الزَّكَاة إذا لم ينقص النّصاب واختلفوا في منع الدين لوجوب الزَّكَاة في مال المدين فيما عدا ذلك على أقوال
القول الأول: إن الدين يمنع وجوب الزَّكَاة مطلقاً, في الأموال الظاهرة والباطنة, حالاًً كان الدّين أو مؤجلاً, سواء كان لله أو للعباد.
القول الثّاني: إن الدّين لا يمنع وجوب الزَّكَاة مطلقاً.
القول الثّالث: إن الدّين يمنع وجوب الزَّكَاة في الأموال الباطنة دون الظاهرة.
ويترجح لي أن الدين يمنع الزكاة لكن لا بد من تقييد ذلك بشروط سيأتي ذكرها.
لماذا اختلف الفقهاء؟
ويرجع الغفيلي سبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة إلى مسألة مهمة هي هل الزَّكَاة عبادة أم حق مرتب في المال للمساكين؟
فمن رأى أنّها حق قال لا زكاة في مال من عليه الدّين؛ لأن حق صاحب الدّين متقدم بالزمان على حق المساكين, وهو في الحقيقة مال صاحب الدين, لا الذي المال في يده.
ومن قال: هي عبادة, قال: تجب على من في يده مال؛ لأنّ ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف, سواءً كان عليه دينٌ أو لم يكن, وأيضاً فإنه قد تعارض هنالك حقان: حق الله، وحق للآدمي, وحق الله أحق أن يقضى, والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزَّكَاة عن المدين لقوله صلى الله عليه وسلم: (... صدقةٌ تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ... )، والمدين ليس بغني.
شروط منع الدين للزكاة
ويشترط الغفيلي لرأيه شروطا عدة يعددها كالتالي:
1- أن يكون الدّين حالاً، فلا يمنع المؤجل وجوب الزَّكَاة في مال المدين.
2- ألا يكون عند المدين عروض قنية (أصول ثابتة)، مما لا يحتاج إليها حاجة أصلية، وذلك كعروض القنية التي تباع لوفاء دينه عند إفلاسه وذلك لما يلي: أ- أَنَّ تلك العروض من مال المدين المملوك له.
ب- أنَّ لـها قيمة مالية تمكِّن صاحبها من بيعها، والتصرف فيها عند الحاجة.
ج- أنَّ لغريمِه المطالبة ببيعها لوفاء دينه إذا لم يمكن سداده من غير تلك العروض. د- أنَّ القول بعدم اعتبار تلك العروض مقابل الدّين المانع من وجوب الزَّكَاة، يؤدي إلى تعطيل الزَّكَاة عن الأغنياء، الذين يستثمرون أموالهم في عروض القنية، أو المستغلات كالمصانع، فمن يملك مصنعاً تفي غلته بحاجته الأصلية، واشترى مصنعاً آخر بالدّين, وكان الدّين مستغرقاً لغلة المصنعين فلا زكاة عليه، مع كونه غنياً بما يملك من العروض والمصانع.
3- ألا يكون المدين مليئاً مماطلاً؛ فإن كان كذلك فإن الدّين لا يمنع من وجوب الزَّكَاة عليه، وهو ما روي عن عثمان رضي الله عنه فإما أن يؤدي الدين لمستحقه أو يزكي المال، ولا ينقص الدّين النّصاب عندئذ، وبذلك يجمع بين الأدلة، ولا تسقط الزَّكَاة باحتساب الدين من نصابه، مع انتفاعه بالمال، وامتناعه من أدائه لأهله.
كيفية زكاة الدين
ويقول العايضي الدّين الحال إن كان الدّين على مليء باذل فيجب على الدائن إخراج زكاته كل عام فيحسب الديون التي له على الأملياء الذين علم من حالهم أنه لو طالبهم بدينه لأسرعوا بالوفاء فيزكي تلك الديون .
أما الديون التي له على المعسرين أو المماطلين فلا زكاة عليه فيها. والله أعلم.
أما الدّين المؤجل: تعد هذه المسألة من أهم مسائل زكاة الديون، وخاصة في هذا العصر؛ وذلك لكثرة التعاملات التي لا تخلو من مداينات، وهي مع ذلك من عُضَل المسائل ومشكلاتها، والقطع فيها براجح يحتاج إلى نظر دقيق، والذي يظهر أن التفريق بين المعسر والمليء في الدين المؤجل فيه نظر؛ لأنه يصعب الوقوف على حال المدين من حيث الملاءة والإعسار فترة الأجل قبل مطالبته بالدّين عند حلول أجله.
فإن قيل: إن الأصل هو ملاءة المدين، فيحكم به حتى يظهر إعساره
فالجواب: أن هذا الأصل وإن سلم في بعض المدينين فلا يسلم في جميعهم، لاسيما إذا كان الدين ناشئا عن قرض, وقلنا إن القرض يتأجل بالتأجيل كما هو رأي المحققين, وبالتالي فهذا الأصل عارضه ظاهر أقوى منه فينبغي إطراحه، الترجيح فيها يعتمد على تحقق شرط تمام الملك أو عدمه، والملاحظ أن الفقهاء يتفقون على اشتراط تمام الملك ويختلفون في تحقيق المناط، وهذا يستدعي دراسة مستقلة لهذا الشرط تجمع شتات الفروع الفقهية التي ذكر فيها لمعرفة الضابط الذي يمكن الرجوع إليه لمعرفة تحقق تمام الملك من عدمه، وهذا ما تقصر عنه همة الباحث في هذا البحث.
ومهما يكن من أمر فإن الذي يمكن ذكره في هذا المقام: أن الأقرب والله أعلم أن يقال: الدّين المؤجل إما أن يكون دينا تجاريا أو دينا غير تجاري. فإن كان دينا تجاريا ناشئا عن عرض تجارة فإن الزكاة تجب في قيمته حالة كل عام، سواء كان التاجر مديرا أم محتكرا على اصطلاح المالكية، فينظر للدين المؤجل كم تساوي قيمته وقت حلول الزكاة وتزكى القيمة.
أما إذا لم يكن دينا تجاريا كما لو كان دينا ناشئا عن قرض، فلا زكاة فيه مطلقا فإذا قبضه استقبل به الحول لأن الأصل أن المدين في القرض معسر، وتقدم أن الدين على معسر لا زكاة فيه، حتى وإن وجد من يقترض وهو مليء إلا أن هذا نادر لا عبرة به.
ولأن القرض يفارق غيره من الديون المؤجلة فهو غير قابل للنماء مع التأجيل، أما الديون المؤجلة غير القرض فهي في الغالب قد استوفت نماءها. والله أعلم.