من التقليد إلى التجديد
لبيت يومي الأحد والإثنين الماضيين الدعوة السنوية الكريمة التي تصلني من الشيخ صالح كامل للمشاركة في الندوة الرمضانية التي تنظمها مجموعة البركة المصرفية وتختص بمناقشة سبل تطوير العمل المصرفي الإسلامي. لقد درجت هذه المجموعة على عقد هذه الندوة بشكل منتظم في شهر رمضان من كل عام. وكانت هذه السنة هي ندوتها الثامنة والعشرين التي يشارك فيها دائما ثلة من كبار الفقهاء والعلماء المتخصصين في هذا المجال. وقد كان لهذه الندوات على مدار هذه السنوات الطوال إسهامات محمودة ونتائج ملموسة على تطوير العمل المصرفي الإسلامي.
والحقيقة أن ما تتميز به هذه المجموعة المصرفية عن غيرها من المؤسسات المصرفية الأخرى، أنها لا تكتفي بتلقي وتطبيق صيغ التمويل التي تتولد عن جهود وأبحاث العلماء فيما يعرف بالهندسة المالية الإسلامية، بل تسهم إسهاماً فاعلاً في رعاية مثل هذه الندوات والإنفاق المادي على جهود العلماء وعلى أبحاثهم. ولا شك أن من شأن هذه الجهود والأبحاث أن تفضي إلى تأصيل ونشر ثقافة الاقتصاد الإسلامي في مؤسساتنا وحياتنا الاقتصادية، وإلى ابتكار صيغ تمويل جديدة تواكب مقتضيات العصر وحاجاته، وتدعم دعما حقيقيا تطوير العمل المصرفي الإسلامي من الناحيتين الفقهية والفنية. هذا فضلا عما أعلمه علم اليقين عن الدعم المادي والمعنوي الذي تقدمه هذه المجموعة لعدد من مؤسسات البحث العلمي في مجال الاقتصاد الإسلامي في جامعاتنا ومنها جامعة الملك عبد العزيز، وكذلك دعمها بعض الجامعات الأخرى في البلاد العربية والإسلامية.
إنني ما أزال أذكر كيف كانت بدايات كفاحنا في هذا الطريق منذ أكثر من ثلاثة عقود صعبة ومريرة! عندما كانت سهام الشك والخذلان تنهال على جهودنا من كل حدب وصوب وملة. لكن إيمان الرواد من العلماء الأفاضل يدعمهم رجال المال المخلصين، من أمثال أميرنا الجليل محمد الفيصل وأخينا الكبير الشيخ صالح كامل وسواهم، كان بعد عون الله تعالي وتوفيقه سندا قويا لهذه الجهود من أجل بلوغ الغايات وتجاوز التحديات.
لكن على الرغم من التطور الكبير الذي تم بحمد الله في هذا المجال، إلا أن مسيرة العمل المصرفي الإسلامي بحاجة ماسة إلى مرحلة جديدة ونقلة نوعية تقربها من الفلسفة الأساسية التي يجب أن تقوم عليها كمصارف مُشاركة في التنمية الاقتصادية. ولن يتسنى لها ذلك دون الانعتاق من دائرة الانغماس في صيغ التمويل التي تحاكي منتجات المصارف التقليدية القائمة على توليد الديون، والانطلاق أكثر نحو تطبيق صيغ التمويل المعتمدة على المشاركات. لذلك جاءت أبحاث اليوم الأول من هذه الندوة لتركز على أهمية مراعاة مقاصد الشريعة ومآلات الأفعال في العمل المصرفي الإسلامي.
لقد سلكت المصارف الإسلامية في مراحل تكوينها الأولي منهج محاكاة المنتجات المصرفية التقليدية، بعد إعادة صياغتها في شكل عقود مقبولة من الناحية الشرعية. وقد كان هذا المنهج مقبولا أثناء فترة التأسيس نظرا لسهولته وسرعته في إيجاد بدائل للخدمات المصرفية التقليدية، ولتثبيت أقدام المصارف الإسلامية الوليدة. أما الآن فقد حان الوقت لابتكار منتجات مصرفية تكون متوافقة مع مقاصد الشارع في أحكام المعاملات من حيث مشاركة المال في تحمل مخاطر النشاط الاقتصادي، ومحققة في الوقت نفسه حاجات الناس في تشغيل أموالهم أو الحصول على التمويل اللازم لهم ضمن إطار ضوابط الشرعية. وليس هناك بأس من التدرج، فالبناء العلمي التراكمي المتدرج الذي يُعمل العقل لإيجاد الحلول، هو القانون الذي يحكم جهود البشر في التطور طيلة تاريخهم على مر العصور، لكن لا يصح في كل الأحوال الوقوف عند التقليد.
إن من عيوب منهج التقليد حتى وإن كان مصمما في إطار شرعي، أنه يكبل صناعة الخدمات المصرفية الإسلامية، ويقودها إلى المآلات نفسها والمشكلات التي انتهى إليها التمويل الربوي التقليدي، فيجعل من عمل مصارفنا صناعة قائمة على تجارة الديون، وهو ما انحصر عمليا جُل نشاط المصارف الإسلامية فيه حتى الآن. فغدت أصولها تتكون في أغلبها من ديون متولدة من عملياتها في المرابحة، والاستصناع، والإيجار المنتهي بالتمليك، وأخيرا التوّرق.
إن استغراق المصارف الإسلامية في صيغ التمويل المعتمدة على البيوع الآجلة، أدى بها إلى أن تتعرض لجملة من المشكلات التي تنشأ عن تجارة الديون: كمشكلة المماطلة في تسديد الدين، ومشكلة الارتباط بأسعار الفائدة في الأسواق العالمية، ومشكلة تمويل الحكومة، ومشكلة الاستثمار في العملات الدولية، ونحوها. ومع أن الجهود المخلصة الدؤوبة قد بذلت وتبذل لاقتراح حلول لهذه المشكلات، إلا أن استمرار المصارف الإسلامية حتى الآن في تجارة الديون كما تفعل المصارف التقليدية - وإن كان بصيغ مقبولة شرعا – هو ما يجب أن ينأى عنه نظامنا المصرفي، ليتوجه أكثر نحو صيغ التمويل القائمة على المشاركات. لكن التحدي هو أن تحافظ المصارف الإسلامية على وظيفة العمل المصرفي الأساسية: وهي وظيفة الوساطة المالية، فلا تشغل نفسها بنشاط مشابه لأعمال التجار من حيث تقليب السلع وحفظها وتصريفها، فلهذا العمل مخاطره التي لا يقبلها المودعون.
إن من أهم أسباب عزوف المصارف الإسلامية عن صيغ المشاركات المصرفية، هو ارتفاع مستوى المخاطر الأخلاقية فيها خاصة في عقد المضاربة. لكن هذه المخاطر ليست قدرا محتوما، فقد تم بحمد الله تطوير عدد من الإجراءات التي يمكن من خلالها تخفيض نسبة المخاطر الأخلاقية في مثل هذه العقود. إلا أن نجاح هذه الإجراءات لا يتوقف على المصارف الإسلامية وحدها، بل يستدعي تضافر جهود جميع الأطراف التي تؤثر في كفاءة صناعة الخدمات المصرفية الإسلامية وفاعليتها، كجهود السلطات المصرفية، والسلطات التشريعية والقضائية.
كانت الصيرفة الإسلامية أملا راود أحلامنا، ثم أصبح حقيقة ماثلة أمامنا. واستمرار نجاح التجربة يستدعي أن ننتقل من مرحلة التقليد إلى مرحلة الابتكار والتجديد.