أتابع هنا مراجعة أوراقنا الاقتصادية "المعقدة" التي بدأتُ في التقاطها جملةً في الأسبوع الماضي، نتفحصها ورقةً ورقة بحثاً عن إجاباتٍ مقنعة ومفهومة للشارع السعودي، حول الأسباب الحقيقية والعميقة لما نكابده اليوم من مشكلاتٍ اقتصادية راهنة؛ إنْ تلك الجاثمة وراء التضخم، أو البطالة، أو الفقر، أو الغش التجاري، أو أزمة سوقنا المالية، أو المعوقات البيروقراطية في بيئتنا التجارية والاستثمارية، أو في أي من أنسجة سياساتنا الاقتصادية "المالية، النقدية، التجارية، الاستثمارية، سوق العمل، قطاع التعليم والتدريب، إلخ". نبدأها اليوم بالخطر الداهم الجديد المتمثل في التضخم! الذي يعني دون لفٍّ أو دوران في لجّة النظرية الاقتصادية؛ أن تستلم راتبك في شيكٍ بعشرة آلاف ريال على سبيل المثال، لتجده وأنت تتسوق برفقة أسرتك بين محلات "أحبتنا" التجار لا تتجاوز قيمته الحقيقية أكثر من خمسة آلاف ريال! أو أربعة آلاف ريال! إنه "المقص" الذي اقتص من دخلك الاسمي "الفخم" ما يعادل غلاء فاتورة المعيشة، لا يبقى لك من راتبك "الفخم" سوى رماده الحقيقي. وتزداد فصول الأزمة دراماتيكياً كلما زادت رقعة ما يقصه هذا "المقص، أو التضخم" يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، في ظل ثبات وعدم تغير قيمة دخلك الشهري، كما هو قائمٌ اليوم بين أظهرنا. من أين جاءت هذه الأورام الخبيثة في مستويات أسعار السلع والخدمات؟! هل أتت كموجةٍ تضخمية مصدرة من الدول التي نستورد منها أغلب احتياجاتنا وموادنا الاستهلاكية المعمرة منها والتجزئة؟! هل هي بسبب ارتباط ريالنا بالمتهالك "الدولار الأمريكي"، الذي وصل إلى أدنى قيمة له خلال خمس عشرة سنةٍ مضت؟! أم أنها جاءت بسبب زيادة الطلب المحلّي نتيجة الانتعاش الاقتصادي الراهن، وارتفاع مستويات السيولة المحلية إلى أعلى سقفٍ لها لم تشهد له مثيلا من قبل؟! أيضاً؛ هل يكشف هذا الارتفاع المفاجئ في مستوى الأسعار عن وجود أشكالٍ من الاحتكار التجاري يقف خلفه جيشٌ من الوكلاء التجاريين المحليين؟! وعشراتٌ أخرى من الأسئلة الصريحة اللازم طرحها بجرأة وشفافية، خاصّةً مع التوقعات المؤكدة باستمرار موجة التضخم الراهنة في الصعود إلى مستوياتٍ، الله وحده الذي يعلم أين ستتوقف. أخيراً، هل صحيحٌ أن موجة التضخم الراهنة "غير مقلقة"، وأن كثيرا من اقتصادات دول العالم تغبطنا عليه، وأنها تتمنى لو أن لديها نفس المعدل؟! علماً أن آخر بيانات لصندوق النقد الدولي تشير إلى معدل التضخم العالمي وصل في 2007 إلى 3.5 في المائة، ووصل في الاقتصادات المتقدمة إلى 1.8 في المائة، ووصل في منطقة اليورو إلى 2.0 في المائة، ووصل في الدول الصناعية السبع الكبرى إلى 1.7 في المائة، ووصل في دول الوحدة الأوروبية إلى 2.2 في المائة، العجيب أن جميع تلك المعدلات أقل من المعدل المسجل لدينا! فمن منهم يا ترى يحسدنا على تضخمنا؟!
الآن؛ هل يهم "المواطن" ونحن جميعاً معه الجواب، أم أنه يتلهف إلى الحل؟! ودون الخوض في التفاصيل؛ قد يكون جميع ما تقدّم أسباباً مباشرة وحقيقية وراء موجة التضخم بنسبٍ متفاوتة! ولكن في رأيي أن السبب الحقيقي الذي يقف وراء التضخم، سببٌ آخر! وهو السبب ذاته الذي يقف وراء البطالة والفقر، وهو أيضاً الذي يقف وراء الانهيار المريع لسوق الأسهم المحلية بأكثر من ثلاثة أرباع قيمتها، وهو السبب وراء كثيرٍ من التشوهات أو الاختلالات الهيكلية في اقتصادنا المحلي! إنه باختصار المتمثل في "السياسات الاقتصادية" مالية، ونقدية، وتجارية، واستثمارية، وعمالية، وتعليمية، إلى آخر حرفٍ فيها! تلك الأنسجة المحيطة به من كل جهة، بعضها ورّط بعضها الآخر في شراكٍ لا مجال لنا بالخروج من شرنقتها إلا بفكِّ وحلِّ تلك الفوضى فيها. لنضرب مثالاً هنا يمس مباشرةً قضية "التضخم"؛ لماذا ارتبطنا بالدولار الأمريكي؟ لأن اقتصادنا ليست لديه قاعدة إنتاجية متنوعة، يمكن الاعتماد عليها في دعم استقرار الريال عوضاً عن الدولار الأمريكي! لماذا ليس لدينا قاعدة إنتاجية متنوعة؟ أو لماذا لم ننجح حتى اليوم في توسيع قاعدتنا الإنتاجية، على الرغم من أنها الرقم الثابت في مقدمة أهداف خططنا التنموية الثمانية السابقة "1970 - 2009"؟! إجابة هذا السؤال المحوري موجودة لدى منظومة "السياسة التجارية" و "السياسة الاستثمارية" بالدرجة الأولى، فما قدمته تلكما السياستين لم يتعدَّ حسب نسبة مساهمة الصناعات التحويلية في إجمالي الناتج المحلي، لم يتجاوز طوال العقود الماضية في أحسن الأحوال أكثر من 12 في المائة! هذا بدوره حشر السياسة النقدية في زاوية ضيقة اسمها "الدولار الأمريكي"! كما ظلّت حبيسةً له بعدم لجوئها إلى خياراتٍ قريبة، كانت متاحةً لها في زمنٍ مضى حينما لاحظت بدء الدولار في مساره الانحداري منذ أكثر من عدة سنوات، كالارتباط بسلةٍ قوية من العملات العالمية، اليوم يقف "ريالنا" أمامها بخسارةٍ حقيقيةٍ خلال الفترة "2001-2007" فقط تتراوح بين - 27 في المائة إلى - 38 في المائة! لماذا أركّز على جانب السياسات الاقتصادية؟! إنها النسيج المحيط بالاقتصاد، إنها المركب الذي يستوعبه ويستوعبنا معه، إنه باختصار الرداء الذي يقيه من المتغيرات الداخلية والخارجية، لقد ظلّت ثابتة وغير متغيرة حسب الظروف والتطورات التي مرّ بها الاقتصاد المحلي، الذي نما وتعملق بفعل تدفقات النفط بالدرجة الأولى، فيما تأخرت هي عن مجاراته بنفس السرعة. إنها اليوم أشبه بثيابِ طفلٍ على رجلٍ مكتمل البدن! لذا كان جزءاً من النتائج نهوض مارد "التضخم"، وما سبقه من ويلاتٍ اقتصادية متمثلة في انهيار الأسهم المحلية، وبقاء شبح البطالة والفقر مخيمان على رؤوسنا كالطير، وغيرها من المعوقات البيروقراطية. وللحديث بقية...
