منذ أن انفردت أمريكا كالقوة الأوحد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والحديث عن سقوط أمريكا يتردد في بعض الدوائر الأكاديمية ومراكز البحوث الاستراتيجية، ناهيك عن خوف البعض وابتهاج البعض الآخر، على أثر الأزمة المالية الأخيرة في أمريكا وقرب تقاعد ملايين من الجيل الذي تلى الحرب العالمية الثانية في ظل تناقص كبير في النمو السكاني وتعثر الجهود العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان وتحدي إيران ونمو الصين والهند عاد الحديث عن حالة أمريكا إلى السطح.
شدني خطاب حديث لديفيد واكر المراقب العام في أمريكا ذكر أن هناك ثلاثة أسباب وراء سقوط الإمبراطورية الرومانية وحددها في تردي حالة المجتمع الأخلاقية والمدنية، وتمدد عسكري في الخارج بثقة في غير مكانها، وأخيرا حالة من سوء الإدارة المالية.
موضوعيا ذكر واكر عدة ملاحظات وأرقام ليدلل على تآكل الحالة المالية والاقتصادية، فمثلا لم يبق من الـ 12 شركة التي كانت في مؤشر داو جونز في نهاية القرن التاسع عشر إلا شركة واحدة هي جنرال إلكتريك، بدأ بذكر أن حجم الدين العام سيزيد بمبلغ ثلاثة تريليونات دولار ليصل إلى 11.2 تريليون دولار في عام 2010 (دون زيادة في الضرائب أو تقليص معتبر في المصروفات الحكومية)؛ الفوائد المترتبة على مثل هذا الحجم من الدين تبلغ نحو 561 مليار دولار، أو ما يعادل تقريبا ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية. لا يمكن استمرار هذا الوضع خاصة على أثر تقاعد الملايين (زيادة في مصروفات التقاعد والخدمات الطبية). كذلك يصاحب ذلك انخفاض حاد في نسب التوفير الأمريكية، فقد كانت نسبة التوفير نحو 11.1 في المائة عام 1985 لتصبح حالة سلبية حاليا. بداية من كانون الثاني (يناير) 2008 ولمدة 20 عاما سيتقاعد نحو 78 مليون أمريكي من تعداد سكاني يبلغ 300 مليون نسمة. الإشكالية الأساسية تقع في كون صناديق التقاعد والبرامج الصحية في حالة عجز مالي يقدر بنحو 15 إلى 20 تريليون دولار على مدى الـ 75 سنة المقبلة، تصرف أمريكا نحو 50 في المائة أعلى من أي بلد صناعي على الخدمات الصحية، وعلى الرغم من هذه المصروفات العالية صحيا إلا أن هناك 47 مليون أمريكي دون تأمين صحي وهذا أعلى من أي دولة صناعية أخرى.
كذلك ذكر عدة معايير أخرى مثل حالة السمنة في الأطفال وطول القامة الذي كان يميز الأمريكيين الذي بدأ في الانخفاض النسبي، فحالة موت الأطفال تحتل الولايات المتحدة المرتبة 41 بعد كوبا وتايوان وأغلب بلدان أوروبا، فالنسبة في أمريكا هي 6.8 حالة وفاة لكل ألف مولود، بينما هي 13.7 في السود الأمريكيين الرقم الذي يقارن بالمملكة طبقا لما ذكر؛ أما من ناحية البنية التحتية فطبقا لجمعية المهندسين المدنيين الأمريكية فإن أمريكا ستحتاج إلى نحو 1.6 تريليون دولار، على مدى السنوات الخمس المقبلة، لإعادة تأهيل البنية التحتية، ولا يفوت الجمعية ذكر أنه في ظل الأزمة المالية الخانقة أن احتمال صرف هذه المبالغ يقرب من الصفر مما سيزيد المتطلبات المالية في المستقبل.
العامل الأخلاقي يتجلى في الفضائح المالية والأخلاقية المتكررة في الطبقة الحاكمة واستبدال المنافسة الشريفة والرأي الصائب بالألاعيب السياسية والمصالح الضيقة، الامتداد العسكري المغرور في العراق وأفغانستان وغيرهما مكلف ماليا ومعنويا وسياسيا. في ظل هذه الحالة يا ترى ما عسى القيادات الأمريكية (خاصة السياسية) أن تفعل؟ المثير للدهشة أن رتشارد تشيني نائب الرئيس الأمريكي ورامسفيلد وزير الدفاع السابق وسياسيين ومثقفين آخرين أسسوا تجمعا للمحافظين الجدد يسمى "القرن الأمريكي الجديد" وذلك بغرض تعظيم الفائدة واستغلال فرصة كون أمريكا هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم بعد انهيار سور برلين.
لعلها من المفارقات أن أَمَر رامفسيلد بدراسة حول الإمبراطوريات وعوامل استمرارها أو سقوطها، بما في ذلك بعض الحلول والاقتراحات لأمريكا، هذه الدراسة لم تنشر حتى الآن. يا ترى هل أمريكا تعايش فترة ركود أم انحدار؟ فاقتصاد أمريكا يعادل نحو خمسة أضعاف حجم اقتصاد الصين والهند مجتمعين، ولا تزال أمريكا تفوز بحصة الأسد من جوائز نوبل في الفيزياء، الكيمياء، والاقتصاد. كذلك لاحظنا كيف استطاع الرئيس كلينتون عكس الوضع المالي إيجابيا. استراتيجيا علينا المراقبة والحذر فقد تكون مخاطرة كبيرة في التعامل مع أسد مجروح، ولكن الأهم هو التركيز على التنمية الشاملة وتعظيم الاستفادة من وضع أمريكا اقتصاديا وعلميا وفنيا لخدمة المملكة والوعي بالتحولات التاريخية لتعظيم الفوائد الاستراتيجية للمملكة.
