3 تحديات أمام البنوك الاستثمارية في ظل الأزمة المالية العالمية
على أثر أزمة الائتمان التي بدأت في صيف 2007م، مُني معظم البنوك الاستثمارية بخفض لقيم الأصول وترتبت عليها خسائر كبيرة للعام الماضي 2008 م، ومن المنظور الدولي فقد سجلت الأرباح التشغيلية لأكبر 13 مؤسسة مالية ريادية منها (مورغن ستانلي، غولدمن ساكس، جي بي مورغن وغيرها)، خسارة بقدر 154 مليار دولار، 12 ضعف للخسائر التي حققتها في العام 2007م. وقد وصل خفض القيم للأصول write - down نحو سالب 200 مليار دولار، ليلغي بذلك صافي الإيرادات. وباستثناء بنكين من هذه المجموعة الـ 13 فقط، قد حققا أرباحا تشغيلية إيجابية قبل حسم الضرائب، وهما مورغن ستانلي بنحو 3.8 مليار دولار، وسوسايتي جنرال بمقدار 0.7 مليار دولار.
خفض قيم الأصول
إن معظم هذه الخسائر نتجت عن آثار خفض قيم الأصول في نشاط البيع والمتاجرة في السندات والأسهم وكذلك ضعف نشاط التعهد للاكتتابات والاستشارات المالية لأعمال الدمج والحيازة. وقد تراجع إجمالي صافي إيرادات المتاجرة من 76 مليار دولار في عام 2007 م إلى سالب (- 60) مليار دولار في عام 2008م، حيث كان معظم هذا الهبوط في إيرادات تجارة السندات وأغلبها في الربع الرابع من العام الماضي. وقد تركز هذا الانخفاض في ثلاث مؤسسات مالية وهي ( ميرل لينش، يو بي إس، وسيتي بنك ). إلاّ أنه استطاعت ستة بنوك من هذه المجموعة تحقيق إيرادات إيجابية في التجارة، ومنها على سبيل المثال (مورغن ستانلي، غولدمن ساكس، جي بي مورغن). وفيما يتعلق بإيرادات تعهد الاكتتابات والاستشارات لأعمال الدمج والحيازة، فقد تراجعت بنحو 32 في المائة إلى 33.7 مليار دولار في عام 2008 م ، من 49 مليار دولار في عام 2007 م.
صافي الإيارادات
ونظراً للوتيرة السريعة التي انخفض بها صافي الإيرادات، فإن المصروفات التشغيلية لم تستطع مسايرة حدّة هذا الانخفاض إذ تراجعت فقط بنحو 14 في المائة من 162 مليار دولار في عام 2007م إلى 139 مليار دولار في عام 2008م. وباستثناء بعض من تلك المؤسسات مثل غولدمن ساكس، ويو بي إس، ودوتشه بنك التي استطاعت خفض مصروفاتها التشغيلية، فما عداهم ليس هناك فرق كبير بين عامي 2007م و2008م، إن لم تكن حصلت زيادة لبعضهم مثل ميرل لينش وسيتي بنك.
وقبل أن أنتقل في حديثي عن أوضاع المصرفية الاستثمارية خليجياً، لعلي أشير أولاً إلى تطور البيئة التنافسية عالمياً. إن أزمة الرسملة والسيولة والثقة أدت إلى إعادة رسم البيئة التنافسية للبنوك الاستثمارية الدولية. فقد كانت البداية في آذار (مارس) 2008م عندما قام بنك جي بي مورغن بالاستحواذ على بنك بير سترن، ثم قام بنك غولد من ساكس ومورغن ستانلي بالتحول إلى مؤسسات مالية قابضة تخضع إلى إشراف مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وتبعه قيام بنك أوف أميركا بالاستحواذ على ميرل لينش. ومن ثم عزز بنك باركلي كابيتال وجوده في أمريكا من خلال استحواذه على بعض من ليمان برذرز، وكذلك وسع بنك نامورا وجوده في آسيا وأوروبا بعد عملية استحواذ لأجزاء مختارة من ليمان برذرز، كما قام ميتسوبيشي يو إف جي بتعزيز وجوده العالمي بشراء 21في المائة من مورغن ستانلي.
امتدت هذه الأزمة المالية لتطول أيضاً البنوك الاستثمارية وبعض البنوك التجارية في المنطقة وبالذات في دول مجلس التعاون الخليجي. لقد منيت هذه البنوك التي لها انكشاف مباشر على الأسواق الأمريكية في منتجات السندات والاستثمارات المهيكلة بتراجع لقيم الأصول، على أثرها قامت البنوك بوضع مخصصات كبيرة لعام 2008م لترتفع بنسبة 127 في المائة للقطاع المصرفي الخليجي مقارنة بـ 2007م، مما أدى إلى تدني أرباحها، في حين أعلنت بعضها عن خسائر مثل بنك الخليج الدولي والمؤسسة المصرفية العربية وإنفست كورب. وتشير الإحصاءات التي قامت بجمعها Deal logic, Zawaya Investors لنشاط المصرفية الاستثمارية في دول مجلس التعاون الخليجي إلى تراجع الإيرادات في المتاجرة بالسندات وأدوات الدين من 148 مليون دولار في عام 2007 إلى 56 مليون دولار في عام 2008م، وكذلك تراجعت إيرادات تجارة الأسهم من 421 مليون دولار في عام 2007 إلى 184 مليون دولار في عام 2008م.
القروض المشتركة
أما في أعمال القروض المشتركة فقد تراجعت الإيرادات من 472 مليون دولار في عام 2007 إلى 340 مليون دولار في عام 2008. وكذلك تراجعت إيرادات الاستشارات لأعمال الدمج والحيازة من 440 مليون دولار في عام 2007 م إلى 257 مليون دولار في عام 2008م، ومثلها بالنسبة للبنوك الخليجية فإن البنوك السعودية هي الأخرى قامت بوضع مخصصات كبيرة نتيجة خفض قيمة الاستثمارات الخارجية، إلا أنها على عكس البنوك المناظرة خليجياً ودولياً فإنها لم تكن بحاجة إلى دعم الحكومة أو ضخ حقوق ملكية جديدة. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن القطاع المصرفي السعودي هو الأقل تأثراً بين البنوك الخليجية نظراً لمحدودية انكشافه على قطاع العقارات، وانخفاض الرافعة المالية وتركيزه على السوق المحلية.
وفي ظل هذه الصورة على المستويين الدولي والإقليمي، فإن أداء البنوك الاستثمارية سيبقى غير ثابت ومتذبذباً خلال العامين 2009 و2010م. ومهما كان توجه سيناريو الإيرادات، فإن ربحية البنوك الاستثمارية ستزداد سوءاً مع توجهها نحو نشاطات أقل عائداً على الموجودات، مع ارتفاع تكلفة رأس المال وتدني المديونية إلى حقوق الملكية. وحتى في ظل سيناريو أكثر تفاؤلاً للإيرادات فإن الربحية لن تبلغ تلك المستويات التي حققتها في ذروة دورة الأعمال السابقة.
وللإسراع في تحقيق الانتعاش فإن على البنوك الاستثمارية أن تنتهج نموذجاً تشغيلياً أكثر بساطة وأصغر حجماً وأكثر تخصصاً، ومن أجل اختيار النشاط الذي تستطيع أن تحقق التنافسية فيه، فإن على هذه البنوك الاستثمارية الموازنة ما بين عدة عوامل لتشمل 1- الإيرادات المحتملة، 2- الإمكانات الأساسية، 3- متطلبات الرسملة وكذلك السيولة. وداخل هذه النشاطات التي يتم اختيارها للمنافسة، أيضاً عليها أن تطور أفقاً واضحاً للعملاء المستهدفين، ابتكاراً للمنتجات، مقداراً لتحمل المخاطر، وقياساً للأداء. كما عليها أن تختبر هذه النماذج التشغيلية وتحديد الكيفية الأفضل للمواءمة بين النموذج التشغيلي الحالي والتحول في مزيج الأعمال مع استمرار زيادة الكفاءة التشغيلية.
وهي في طريقها إلى تشكيل نماذج أعمالها الجديدة، فإنه يتعين عليها أن تترقب وتدير التأثيرات الحكومية والإجرائية التي ستتخذها الحكومات للحيلولة دون تكرار مثل هذه الأزمات المالية، إذ مما لا شك فيه أن تشديد الإشراف على إدارة المخاطر لن يبقي مساحة محدودة للنشاطات عالية العوائد والمخاطر. كما أن الضغوط الكبيرة تجاه تنمية الإقراض ستخفض من توفير رؤوس الأموال للنشاطات الأخرى. أما عامل الابتكارات فسيلعب دوراً مهماً في إنعاش الصناعة المصرفية الاستثمارية. ورغم الانحسار في الابتكارات المالية المعقدة، إلا أن الابتكار سيأخذ نمطاً جديداً ويعود ليحرك دورة الأعمال القادمة.
3 تحديات
إن هذه الأزمة المالية ولدت ثلاثة تحديات على نماذج التشغيل للبنوك الاستثمارية:
1- السعي لتحقيق خفض في التكاليف من غير الإضرار بحجم الأعمال في ظل بيئة أعمال تشغيلية أصبحت تعمل بإمكانات أقل وما قد يسببه ذلك من زيادة احتمالات مخاطر التشغيل.
2- المواءمة بين نموذج التشغيل والخليط الجديد من الأعمال، إذ قد يتطلب الأمر تغييراً هيكلياً وليست التوسعة التقليدية، مع الأخذ في الاعتبار أن خيارات خليط الأعمال الجديد قد تخفق في أن تعكس قوة نموذج التشغيل وقدرة هذا النموذج على التكيف مع المتغيرات في الأعمال.
3- إدارة الأعمال التشغيلية في ظل تدني الإنفاق على اكتساب المهارات وكذلك محدودية الاستثمار في مبادرات جديدة.
ولمواجهة هذه التحديات من أجل تحسين أداء البنوك الاستثمارية فإن البنوك الاستثمارية عليها:
أولاً: أن تكون مبادرة في قراراتها الاستراتيجية، مع الالتزام بالشفافية والأخذ بالأهداف المبنية على المعلومة عند خفض التكاليف.
ثانياً: المراجعة المنظمة لمحددات التكاليف مع اتباع النهج من الأسفل إلى الأعلى عند مراجعة فرص التوفير ووضع الأولويات فيما يخص الفرص الأكثر تأثيراً والأسرع ربحية، وتعميق نهج إدارة حسب الطلب للخدمات المكتبية الأمامية ومشروعات التقنية.
ثالثاً: إعادة تشكيل نموذج التشغيل من خلال توحيد المعايير، دمج بعض الأعمال، ومكننة الأعمال الشبيهة إلى جانب التهيؤ للمتطلبات الإجرائية في تحقيق الشفافية في كل المنتجات الاستثمارية مع النظر إلى النشاطات التي تحقق نمواً بمتطلبات محدودة.
وبالنظر إلى الفرص في المنطقة الخليجية، فإن الأمر يتعلق أولاً بتطورات الأسواق الدولية الرئيسية وإمكانات الانتعاش الاقتصادي الذي يبدو أنه سيتأخر إلى النصف الثاني من عام 2010م. بيد أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية ستستخدم مواردها لضمان استمرار المشروعات من أجل حفز النمو الاقتصادي، كما أنها ستتدخل لإنقاذ الموقف إذا استدعت الضرورة.
ولذا فإن استمرار برامج الإنفاق الحكومي على المشاريع الرأسماليه ستكون له آثار إيجابية لنشاط البنوك الاستثمارية، سواءً من خلال طرح هذه المشاريع للاكتتاب العام وإن كان بوتيرة أقل منها في السنوات الماضية، نظراً لمحدودية التمويل الأجنبي وتدني الثقة بالأسهم وشهية المستثمرين للاكتتابات. كما أن البعض من تلك المشاريع التي أعلنت خلال السنوات الماضية قد تم إرجاؤها إذا لم تعد مجدية اقتصادياً مع تدني الطلب وانخفاض الأسعار العالمية. وقد تأتي إعادة الأولويات في الاستثمارات الحكومية بالتركيز على مشاريع البنية التحتية وهو ما يوفر فرصاً في أعمال التقييم والتعهد بالاكتتاب. كما أن محدودية موارد التمويل الدولية والمحلية ستسهم في التعجيل بتطوير أسواق السندات والصكوك مما قد يوفر فرصاً جديدة من خلال أعمال التسنيد وإصدار الصكوك.
وفي حين شهدت الفترة الماضية ارتفاع عدد الاكتتابات، إذ وصل إلى نحو 59 اكتتاباً في السعودية في الفترة من 2003م إلى 2008م بإجمالي تمويل يصل إلى 130 مليار ريال، فإن وتيرة هذه الاكتتابات تباطأت بشكل كبير منذ بداية الأزمة وحتى الآن. غير أنه من المتوقع في ظل التباطؤ الاقتصادي خليجياً، أن تواجه بعض الشركات صعوبات قد تدفع باتجاه خفض التكاليف وبالتالي التوجه نحو الاندماجات مما قد يوفر فرصاً للبنوك الاستثمارية للقيام بهذه الأعمال.