أدلجة الاقتصاد (2 من 2)

أنا هنا لا أدافع عن ربانية الاقتصاد العالمي، ولكن الذي يحز في نفسي كرجل أكاديمي أحاول جاهداً إخضاع الأمور للمنطق والعقل والمنهج العلمي بدلاً من العاطفة، أن أرى الأمور تصطح وتخلط بهذه الطريقة من أجل ادعى انتصارا زائفا لن يقربنا من المشاركة الفاعلة في صناعة مستقبل الاقتصاد العالمي الذي نحن جزء لا يتجزأ منه، بل على العكس سيعيدنا إلى الوراء سنوات عدة إن لم تكن عقودا، فأدلجة الأحداث لم تنفعنا في الماضي ولن تفيدنا في المستقبل، فمن وجهة نظري فإن الأسباب التي أدت إلى الأزمة المالية يمكن تلخيصها في النقاط الأربع التالية، التي كانت من ضمن مشاركتي في مؤتمر المحاسبة والاستثمار والتي ليس من ضمنها ربانية الاقتصاد:
1 - ارتفاع حجم مديونية المؤسسات المالية إلى درجة غير مقبولة، فمع أول تصحيح في السوق المالية على أثر تعسر بعض ملاك المنازل في سوق العقار الأمريكية أصبحت هذه المؤسسات المالية مكشوفة ومهددة بالإفلاس، فأول رد فعل طبيعي للمؤسسات المالية هو الإحجام عن إقراض للقطاع الخاص (الشركات) لأن البنوك في أمس الحاجة إلى أي هللة تجدها من أجل تخفيض ديونها، بالتالي الابتعاد عن شبح الإفلاس ولو لعدة أسابيع، وبالمنطق نفسه عندما تتوقف البنوك عن الإقراض لا تجد الشركات السيولة النقدية لتنفيذ مشاريعها الاستثمارية، وبالتالي تتوقف هذه الاستثمارات ويترتب على ذلك تسريح العمالة. فعندما يفقد الناس أعمالهم لا يستطيعون سداد قروض سياراتهم ومنازلهم وأثاثهم وأي شيء آخر تم شراؤه بالتقسيط، وبالتالي يأتي البنك ويستولي على منازلهم وسياراتهم وأثاثهم ... إلخ، وهكذا تستمر حلقة الانهيار الاقتصادي.
2 - ارتفاع مديونية الأسر الأمريكية إلى حد أكبر من قدرتهم على السداد، فعندما يراكم أي شخص الديون على نفسه إلى درجة تتجاوز قدرته على السداد، فإن المقرضين (شركات الإقراض) سيهددونه بأخذ سيارته أو بيته إن لم يسدد الأقساط المستحقة عليه، وعند ذلك سيغير هذا الشخص نمط حياته من أجل توفير المال لسداد ديونه إذا أراد الاحتفاظ ببيته وسيارته، فلعل أول ما يقوم به هذا الشخص هو إلغاء التسوق والسفر والذهاب إلى المطاعم في نهاية الأسبوع من أجل توفير المال لسداد دينه، وهذا شيء طبيعي سواء أكان قرضه قرضاً مباركاً! أو قرضاً تقليدياً (غير مبارك). فعندما يتوقف الناس عن الشراء والسفر والذهاب إلى المطاعم تنهار أرباح الشركات، وعندما تنهار أرباح الشركات تسرح هذه الشركات موظفيها، فعندما يفقد الموظفون مصدر دخلهم يعجزون عن سداد قروض منازلهم وممتلكاتهم الأخرى، فيأتي البنك ويستولي على ممتلكاتهم.
3 - المشتقات المالية، والمقصود بالمشتقات المالية الوسائل التي تستخدم للتحوط من الخسائر أو تقليل أثر تقلبات أسعار متطلبات الإنتاج في الأسواق المالية على أعمال الشركات، فلنفرض أنك صاحب مخبز (فرن) ومن أجل إنتاج الخبر تحتاج إلى دقيق (طحين)، ولنفرض أن الكيس الواحد من الدقيق يكلفك 20 ريالاً، ولنفرض أيضاً أنه لسبب من الأسباب المؤقتة أصبح كيس الدقيق يباع اليوم في السوق المحلية بعشرة ريالات فقط، وأنت تعتقد أن سعر الدقيق سيرتفع في المستقبل القريب إلى 20 ريالاً، وتتمنى أن يكون لديك 100 ألف ريال لشراء 12500 كيس من الدقيق، وأثناء تفكيرك مر عليك أحد التجار الذي يعتقد أن أسعار الدقيق ستنخفض إلى خمسة ريالات للكيس خلال السنة المقبلة، فقال لك: مالك أيها الرجل أراك مهموماً، فشرحت له ما يدور في ذهنك، فقال لك: لا تهتم أنا سأبيع لك هذه الكمية من الدقيق بعد سنة من الآن بسعر اليوم، أي عشرة ريالات للكيس الواحد، فعندئذ كتبت عقدا بينك وبين التاجر، وبموجب هذا العقد يلتزم التاجر بتوفير 12.500 كيس من الدقيق بعد سنة من الآن، وأنت تلتزم بدفع عشرة ريالات مقابل كل كيس عند الاستلام. سؤالي هنا، هل تعتقد أنك ارتكبت شيئا محرما، لا سمح الله، في هذه الصفقة؟ مثلما قلت سابقاً أنا رجل أكاديمي وليست مفتياً، ولكني لا أعتقد أن في هذا العقد شيئا من المحرمات، حسب معلوماتي الفقهية المتواضعة. الذي أعرفه بكل تأكيد أن هذا العقد الذي بينك وبين تاجر الدقيق هو نوع من أنواع ما يعرف اليوم بالمشتقات المالية.
4 - عدم وجود أو نقص في التشريعات التي تنظم الأسواق المالية، فمثلاً المشكلة في المشتقات المالية ليس في كونها ربانية أو غير ربانية (حلال أم حرام)، بل في عدم وجود التشريعات التي تنظم الحقوق والواجبات المترتبة على من يتعامل في هذه المشتقات المالية. كذلك معظم المؤسسات المالية التي تتعامل في المشتقات المالية مثل صناديق التحوط غير خاضعة للرقابة والقوانين التي تنظم عمل المؤسسات المالية. مثال آخر على نقص التشريعات هو عدم الفصل بين البنوك وشركات الاستثمار وشركات التأمين، هذه الأنواع الثلاثة هي المكونات الأساسية لمؤسسات الخدمات المالية، تاريخياً كانت هذه المكونات مفصولة بعضها عن بعض لسببين: الأول هو أن كل خدمة من هذه الخدمات تتطلب مهارات وخبرات معينة، فمثلاً الأفراد المتخصصون في العمليات البنكية ربما لا يجدون تكوين وإدارة المحافظ الاستثمارية، ومدير أي محفظة استثمارية مهما كان لامعاً ربما لا يفهم في المخاطر التي تتعرض لها شركات التأمين. السبب الثاني هو أن هذه المكونات (البنوك، شركات الاستثمار، وشركات التأمين) تمثل خط حماية ورقابة بعضها بعض.
فعند التأمل في العوامل الأربعة السابقة يتضح لنا أنها تعمل تحت نظام اقتصادي بحت ليست مرتبطة بأي ديانة معينة سواء كانت الديانة المسيحية أو اليهودية أو الإسلامية أو البوذية أو الهندية أو اللادينة، باختصار لو حدثت هذه العوامل في أي اقتصاد في العالم لكان مصير هذا الاقتصاد أشبه ما يكون بمصير اقتصاد العالم في هذه الأيام مهما كانت ربانية هذا الاقتصاد. الخوف كل الخوف أننا نؤدلج هذه الأزمة مثلما أدلجنا الأزمات السابقة، ففي كل مرة نفوت على أنفسنا فرصة لا تعوض للتعلم، فعندما يتم أدلجة العلم والتجربة الإنسانية، فإن هذه الأيديولوجية تطغى على قدرة العقل البشري على التبصر والتمعن في التجارب الإنسانية والأحداث التي غيرت نواميس وقوانين العالم من حولنا، فبذلك نفقد القدرة على التفكير بشكل علمي وموضوعي متجردا من الأحكام المسبقة.
باختصار أدلجة الأحداث لم تفدنا في الماضي، ولم تفدنا في الحاضر، ولن تفيدنا في المستقبل، فعلى سبيل المثال أدلجنا جميع الكوارث والأحداث التي مرّت بالعالم منذ ستينيات القرن الماضي مروراً بكارثة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وبسبب هذا التصطيح للأحداث التي غيرت العالم من حولنا لم نتعلم شيئا. لا أريد الدخول في مناظرات لا فائدة من ورائها حول هذا الأمر، ولكن كل ما أريد الوصول إليه هو التنبيه إلى هذه العبثية في التفكير التي لا تمثل مضيعة للوقت والجهد فحسب، بل فيها تضليل وتفويت للفرص التي يمكن أن نتعلم منها الكثير. فليس بعيب أن نتعلم من تجاربنا الفاشلة وهي كثيرة، فالمثل الأمريكي يقول: مَن لم يتعلم من الماضي كتب عليه أن يعيده، أي يعيد أخطاءه، والتعريف المختصر للجنون هو أن المجنون شخص يقوم بتكرار عمل الشيء ويتوقع نتيجة مختلفة، أي إذا رأيت شخصا يكرر عمل الشيء نفسه ويتوقع أن يصل إلى نتيجة مختلفة، فاعلم هداك الله أن هذا الشخص مجنون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي