Author

البيع على المكشوف.. حقيقته.. حلاله وحرامه

|
قررت هيئة سوق المال في الأسبوع الماضي أن تُدخل أدوات استثمارية مالية جديدة على السوق السعودية تتمثل في المشتقات والبيع على المكشوف. ومن  النافع أن تُؤصل هذه الأدوات مبكرا تأصيلا فقهيا صحيحا تحت ضوء الكتاب والسنة يعتمد على الفهم الصحيح لديناميكية طريقة عمل هذه الأدوات لئلا تُحرم هذه الأدوات بمفهوم خاطئ فيكثر اللغط والخلط والتفسيق والقذف والتضييق على المسلمين ثم يصعب من بعد ذلك تصحيح المفاهيم الخاطئة، وقد استأصلت في نفوس الناس وعقولهم. والبدء في البيع على المكشوف قبل المشتقات ليكون موضوع المقال لهذا الأسبوع يمليه الترتيب العقلي لفهم هذه الأدوات فقهيا وعمليا. تُرجمت Short Selling  بالبيع على المكشوف ترجمة غير حرفية من أصل الكلمة "بيع قصير". ولكنها اشتقت لفظها العربي نوعا ما من طريقة التنفيذ ولكن على مفاهيم الغرب الحديثة. هذه المصطلحات في الواقع لها معان غير معانيها حتى في لغتها الأم القديمة وإذا أضيفت الترجمة إلى اللغة العربية إلى ذلك، كان النتاج معاني يُفهم منها ما لم يُقصد بها. ومن باب التمهيد الفقهي الإسلامي, فإنه عند إطلاق لفظ كلمة البيع ينصرف الذهن عموما إلى عملية تبادل بين ثمن وسلعة, هذا التبادل إما أن يكون فوريا وإما يكون بتسليم أحدهما وتأجيل الآخر كالبيع على المكشوف وإما يكون بتأجيلهما كليهما كبيع بعض المشتقات. فإذا كانت السلعة حاضرة والثمن مؤجلا أطلق على هذا البيع "بيع بالآجل". فإن كانت العملية عكسية بأن كان الثمن حاضرا والسلعة مؤجلة أُطلق على هذا البيع العكسي سلما (بيع السلم). وهذا في حالة تأصيل هذه العمليات التبادلية من جهة الصورة والشكل أما إذا أردنا تأصيلها من ناحية المقاصد فسنجد أن المشتري في حالة البيع محتاج إلى السلعة ذاتها فيمتلكها حالا ولا يملك الثمن فيجعله مؤجلا على أن يُزاد فيه. أما في حالة بيع السلم فسنجد أن البائع لا المشتري هو الذي في حاجة إلى الثمن نفسه حالا ولا يملك السلعة فيؤجلها على أن يزيد فيها. إذن فبيع السلم هو ببساطة بيع عكسي. والأمور إلى هذا الحد واضحة لا لبس فيها لأن هناك ثمنا وسلعة ونسأ (أي استلام بدل وتأجيل المبدل منه)، وفي كلا الحالين كان أحد العوضين غائبا. فالمشتري لم يكن يملك الثمن في حالة البيع المؤجل والبائع لم يكن يملك السلعة في حالة بيع السلم. ولكن الأمور ستلتبس وتتعقد خاصة على من لا يعتد بالمقاصد، وذلك في حال إذا كان الثمن سلعة أيضا. مثاله إذا جاء شخص إلى آخر وقال له أعطني سيارتك على أن أعطيك سيارة مثلها (وليس عينها) مع عشرة صناديق تفاح أخضر طائفي. فهل هذا بيع آجل أم بيع سلم؟ أين الثمن وأين المثمن؟ فالبيع الآجل تعجيل للسلعة وتأجيل للثمن وأما السلم فهو تعجيل للثمن وتأجيل للسلعة. فتخريج المسألة هنا، على ما يظهر لي، على ثلاث صور.  فإما أن يقال أن الثمن في بيع السلم يجب أن يكون من الأصناف الربوية الستة، الذهب والفضة والبر  والشعير والتمر والملح،  أو ما يقاس عليها،  وإن لم تخني الذاكرة فقد اشترط بعض علماء المذاهب ذلك لصحة بيع السلم.  وأما التخريج الثاني فهو أن بيع الآجل هو بيع السلم لا فرق بينهما. وهذا يظهر عند تأمل توصيف العلماء لعملية استبدال الجمل حالا بالجملين والثلاثة مؤجلة و التي قام بها مندوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتجهيز الجيش. فمن العلماء من وصف ذلك التبادل بيعا آجلا ومنهم من وصفها سلما ومنهم من وصف العملية قرضا ولا يقصد به القرض الذي هو عقد شفقة وإحسان ورحمة بل عقد التمويل. فاختلاف توصيف العلماء لعملية تبادل الجمل بالجملين والثلاثة من بيع سلم وبيع آجل وتمويل وقرض يدل دلالة عقلية على أن بيع السلم والبيع الآجل والتمويل جميعها وصف لعملية واحدة ما لم يكن أحد المتبادلين يقصد الشفقة والإحسان والرحمة فهنا يكون العقد قرضا يجري عليه أحكام القرض. واختلاف توصيف العلماء لعملية واحدة نابعة من اختلاف بيئاتهم التي يتصورون العملية التبادلية من خلالها. ولذا يجب ألا تُأخذ ألفاظ الغرب وتنزل فقهيا على ما يشابهها لفظيا في الفقه الإسلامي. وأما التخريج الثالث، فهو أن ننظر فإن كان غرض من يستلم الشيء الحال في مجلس العقد هو الشيء نفسه لكي يستفيد من ذات الشيء فإنه يصبح سلعة في حقه وعليه فيكون هذا البيع  بيعا آجلا. وإما إن كان غرضه التوصل بهذا الشيء الذي استلمه في مجلس العقد لكي يحصل به على  شيء آخر كأن يكون نقدا أو لكي يقايضه بسلعة أخرى كان هذا الشيء في حقه ثمنا وعليه فالبيع بيع سلم لاستلام الثمن في مجلس العقد وتأجيل المثمن. حقيقة البيع على المكشوف المطبق قانونيا الآن في الولايات المتحدة أقرب حقيقة للبيع الآجل منه إلى بيع السلم، وعلى كل حال فكونه سلما أو بيعا آجلا أو خليطا منهما فإن ذلك لا يؤثر في حكمه الشرعي وهو الجواز بلا خلاف وهو بيع صحيح متكامل الشروط خال من النواقض إلا أن يكون العقد واقعا على الأموال الربوية أو ما يقاس عليها كالعملات فهذا يدخل في ربا البيوع عند من يرى قياس العملات على الذهب والفضة. حقيقة البيع على المكشوف هو أن يشتري التاجر بضاعة حالا بثمن مؤجل. هذا الثمن المؤجل  هو بضاعة مثلية (أي تشبه التي اشتراها) مع مبلغ مالي زيادة على البضاعة. مثاله أن يأتي تاجر أسهم إلى التأمينات الاجتماعية التي تحتفظ بالأسهم كاستثمار طويل الأجل ويسمى هذا الوضع بـ Long Position. فيطلب تاجر الأسهم من التأمينات، من خلال وسيط أو بنفسه، أن يبيعوه 1000 سهم لـ "سابك" بثمن مؤجل إلى شهر ويكون هذا الثمن المؤجل هو عبارة عن ألف سهم لـ "سابك" و10 أونصات من الذهب. أي أنه يشتري ألف سهم لشركة سابك يحل ثمنها بعد شهر بما مقداره ألف سهم لشركة سابك مضاف عليها عشرة أونصات ذهب زيادة. فهذا البيع هو بيع آجل وهو جائز لأن الأسهم ليست ربوية أي لا تقاس على الأصناف الستة الربوية بالإجماع فيجوز فيها الفضل وهو غير موجود هنا في هذا المثال ويجوز فيها النسأ أي التأجيل وهو موجود هنا كما يجوز أن يضاف إليها ما ليس من جنسها وإن كان ربويا كالذهب. وشاهده فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ بجواز بيع غنم و100 ريال زيادة ، الـ 100 حالا و الغنم مؤجلة (فتوى 20021) وكذلك فتوى3791 بجواز بيع ثياب متر واحد بمترين مؤجلا. وعودة على حقيقة البيع على المكشوف، فإن دافع التاجر الذي اشترى أسهم "سابك" بالأجل هو اعتقاده أن الأسهم سينخفض سعرها خلال الشهر. فيشتري الأسهم بالأجل ويبيعها حالا. ثم ينتظر انخفاض سعر سهم "سابك" فيشتريه بالسعر المنخفض 800 ريال مثلا ويعيد الأسهم إلى التأمينات الاجتماعية. فإذا افترضنا أن سعر الأونصة من الذهب 3500 ريال فيكون بذلك قد أعاد الأسهم إلى التأمينات مع 35 ألف ريال هي قيمة صافي ربح التأمينات، وأما التاجر فسيكون صافي ربحه 200.000 – 35.000 = 165 ألف ريال. فالتأصيل الفقهي الصحيح للبيع على المكشوف هو أن التاجر قد اشترى وملك أسهم "سابك" حقيقة وتمكن من بيعها ثم دفع ثمنها أسهما مثلها وذهبا للتأمينات. إذن فالبيع على المكشوف كما يمارس في الولايات المتحدة الآن جائز شرعا بلا خلاف، (وأنا أستثني هنا نوع البيع على المكشوف العاري الذي منع قانونيا عام 2005م). عملية التبادل هذه تسميها الكتب الأجنبية باقتراض الأسهم أحيانا وبالاستعارة أحيانا أخرى كما تسميها أحيانا إجارة ومسمياتهم لا أثر لها في التأصيل الفقهي. وهذه المسميات هي التي قد أدخلت اللبس على بعض من أفتى بحرمة البيع على المكشوف لأنه حمل هذا التبادل من باب النهي عن بيع ما لا يُملك فحكم عليه بأنه بيع باطل وفاسد لا يصح و يأثم صاحبه. البيع على المكشوف له مضار ومنافع ومنافعه أكبر من مضاره نتطرق إليها الأسبوع المقبل مع مواضيع عدة متعلقة بالبيع على المكشوف كالحوافز وكربح الأسهم خلال الفترة المباعة فيها والبيع العاري وأمور أخرى يأتي الحديث عنها ـ إن شاء الله ـ لا يتسع المقال لها هنا.
إنشرها