خيار السعودية الاستراتيجي ما بين الصين وأمريكا
في الأزمات تتأرجح الموازين, تختل القوى, تعدل أو تستبدل الرؤى, وتتغير خلالها التوجهات الاستراتيجيات والعلاقات المستقبلية. في الأزمات يعاد ترتيب الأولويات ويعاد تقييم أهمية التبادلات الاقتصادية والتجارية والعسكرية وحتى السياسية. في غالبها, تعد الأزمات تهديداً يرعب منه من له ارتباط أو اعتماد كبير أصبح خاطئا بفعل الأزمة وتداعياتها مع دول تأثرت تأثيراً مباشراً أو بدأت في فقد رؤيتها وتميزها الاقتصادي. إلا أن الفرص تولد من عنق الأزمات, فقط لمن له القدرة على التعرف عليها ورؤية ملامحها في عتمة الأزمات وظلماتها. الخيار خيار استراتيجي لا يلغي العلاقات ولا يولد عداءات, الخيار خيار أمن اقتصادي في الدرجة الأولى وسياسي في الدرجة الثانية.
في السنوات العشر الماضية كثرت التنبؤات باستحواذ الصين على زعامة العالم اقتصادياً خلال العقدين أو العقود الثلاثة المقبلة, إلا أن هذه التنبؤات زادت بعد الأزمة المالية الراهنة إلى حد الجزم من أن هذا التغيير في المكانة القيادية للاقتصاد العالمي زادت سرعته. بغض النظر عما إذا كان هذا التغيير في السلطة الاقتصادية العالمية بدأ في الحدوث من عدمه, فإن الخيار الاستراتيجي ينبغي أن يبنى على أسس واضحة ومؤشرات مستقبلية يمكن التأكد منها لكي نتمكن من خلق الشراكة اللازمة والمهمة لتبادلنا وارتباطنا الاقتصادي مع شريك أو شركاء لديهم القيمة الاستراتيجية التي نحتاج إليها في فترة ما بعد الأزمة.
بطبيعة الحال فإن أمريكا والصين ليسا الخيارين الوحيدين ولكنهما الأهم لدولة لا يزال اقتصادها يعتمد بنسبة كبيرة على سلعة النفط. كان للصين الدور الأكبر في خلق الطفرة التي شهدها اقتصاد المملكة في السنوات القليلة الماضية, فبسبب ارتفاع النمو الاقتصادي في الصين والهند زاد الطلب العالمي على النفط محدثةً فوائض في الكثير من اقتصادات العالم. اليوم لا تزال الصين هي الدولة الوحيدة من الدول الخمس الأكبر اقتصادياً التي ينمو اقتصادها ولا يزال العالم يتطلع إليها لكي تلعب دورا مهما في استقرار النظام الاقتصادي للعالم.
المتمعن في الفروق بين الصين وأمريكا سيلاحظ من أن المؤشرات تظهر أن الصين خيار لا غنى لنا عنه على مدى العقود المقبلة. متوسط معدل النمو في الاقتصاد الصيني بلغ 9 في المائة منذ الثمانينيات من القرن الماضي وهذه نسبة لم تستطع الدول الكبرى الأخرى إنجازها. 40 في المائة من إنتاج الصين يصدر ولهذا فإنه لا يوجد بها دين خارجي. معدل التوفير في الصين تجاوز 35 في المائة مقارنة بـ 2 في المائة فقط في أمريكا. البنية التحتية للصين من موانئ وجسور وطرق تتضاعف كل سنتين ونصف مقارنة مع البنية التحتية لأمريكا والتي لم يتم ترميمها منذ زمن طويل. في السنوات الثماني المقبلة ستكون الصين أكبر دولة تتكلم اللغة الإنجليزية في العالم وأكثر من الربع من الصينيين يملكون مستوى عاليا من الذكاء وهي نسبة أكثر من كل سكان قارة أمريكا الشمالية. في كل خمس دقائق سيكون هناك 60 مولوداً في أمريكا و244 مولوداً في الصين وهذا له دلالته أيضا.
الصين وأمريكا خياران لا بد منهما في علاقاتنا الاقتصادية والسياسية بغض النظر عن الزعامة للاقتصاد العالمي, فالمملكة ستحتاج إلى تعزيز هذه العلاقات وتقويتها. مع أن المملكة في السنوات القليلة الماضية زادت من تفاعلها الدبلوماسي والاقتصادي مع الصين, إلا أننا لا نزال نحتاج الكثير من التوجه الاستراتيجي في إعداد وتهيئة مؤسساتنا وشركاتنا مديرينا من معرفة كيفية التعامل مع النظراء الصينيين لكي نتمكن من خلق شراكة طويلة الأجل. الصين كقوة اقتصادية كبيرة ستقود الاقتصاد العالمي في المستقبل القريب سنحتاج إليها أكثر من أن تحتاج إلينا, فهي دولة نشطة جداً في إيجاد مصادر للطاقة في كل أركان المعمورة وعلينا من الحفاظ عليها خاصةً في ظل التقلب في المواقف الأمريكية. لا نزال نبعث أعدادا قليلة جداً من الطلبة إلى الصين مقارنة بأهمية مستقبل علاقاتنا مع الصين, فهذه الأعداد لا بد من رفعها لكي نتمكن من إعطاء شركاتنا واقتصادنا فرصة أكبر في تحقيق تميز في علاقتنا مع الصين مقارنة بالدول الأخرى.